سأختم غداً سلسلة مقالاتي هذه التي بدأتها يوم الثلاثاء الماضي عن نتائج الانتخابات اللبنانية التي انتصر فيها \"العقل وتيار الاعتدال\" على \"الشعار وتيار التطرف\"، واستطردت لأوضح الجذور والامتدادات ومصائر \"الشعاراتية\" في تاريخنا العربي المعاصر، وللتوضيح فإنني في كل ما كتبت أقصد بالشعاراتية، معنيين أظنهما واضحين، لكن لا بأس من التأكيد منعاً لأي لبس. إن ما أقصده بالشعاراتية العربية، هو أولاً معناها الأجوف، وصوتها المرتفع وهذا المعنى والصوت هو الذي يتمثله ويمارسه بصورة مزرية جماهير هذه \"الشعاراتية\" المخدوعون بها، والذين حقنتهم رموزها ومنظروها ودعاتها بأفكار هلامية سطحية دغدغت بها مشاعرهم واستحلبت عواطفهم مستغلة جذوراً راسخة في ذهن وعقل هذه الجماهير ولا تقبل المساومة عليها أو النقاش حولها، وعزف رموز \"الشعاراتية\" عليها واستغلوها أسوأ استغلال لإقناع هذه الجماهير بمشروعية وصدق ما تفعل وما تنادي به هذه الرموز حتى أصبح الأتباع يتكاثرون ويتدافعون دون روية أو تفكير، أما الآخر للشعاراتية الذي أقصده، فهو المعنى الانتهازي المزيف وهو ما ينطبق عليه المقولة الشهيرة\"حق أريد به باطل\"، وهذا الحق الذي أريد به باطل هو خاص بالرموز والمنظرين للشعار ودعاته فهم طلاب سلطة هي \"قيادة الأمة العربية كلها عند القوميين، وهي قيادة الأمة الإسلامية كلها عند الإسلامويين\" لكنهم لا يعلنون هذه الحقيقة لأتباعهم منذ البداية، بل لا يبوحون بها إلا للخاصة، أو من يطمئنون إلى أن دماغه غسل بصورة لا يحتمل معها أن يفكر ويتراجع من جماهير الأتباع ليستخدموهم حطباً في حرائقهم التي يزعمون أو يتوهمون أنها توصلهم لأهدافهم المخفية عن عامة الأتباع، وهذا الحق الذي استغله الشعاراتيون هو ما يتمثل بوضوح في \"قضية العرب المركزية منذ ستين عاماً فلسطين وما أضافوه من محاربة الإمبريالية عند القوميين الشعاراتيين الذين قلت إنهم لم يعد لهم سوى أصوات مبحوحة بعد دفن جثة المشروع كله\"، وهو ما يتمثل بوضوح عند\"الإسلامويين أو جماعة الإسلام السياسي أو الأصوليين أياً كان مذهبهم الذين استغلوا الدين الإسلامي العظيم، وانحرفوا به قاصدين متعمدين نحو شعاراتية مقيتة تخلط بين الحقيقة والوهم وبين المقدس والأسطورة وبين المنطق والخرافة، واستغلوا في سبيل تحقيق أهدافهم في السلطة كل الوسائل والآليات والإمكانات من طائفية ومذهبية وحزبية من تنظيمات سرية وجماعات علنية ومن لي أعناق نصوص الدين والاستغراق في التأويلات إلى التشدد والتفسيق والتكفير وابتكار الأعداء وتهويل خطرهم على الدين والأخلاق والبشر، حتى أصبح الدين الإسلامي الحق الوسيلة المثلى التي اتخذها \"الإسلامويون\" مطية لتحقيق هدفهم الأسمى الذي لا تعرفه وقد لا تصدقه معظم جماهيرهم وأتباعهم، وهؤلاء كما قلت إن بقي لهم وميض حزب هناك، أو بريق جماعة هنا، أو أمل تمكين في أي مكان فهي إنما شهقات النزع الأخير بعد أن تنبه الناس أفراداً وجماعات وأنظمة لخطرهم، وبعد أن دفعوا وما زالوا يدفعون أثماناً باهظة لهذه اليقظة لا تقل عن تلك الخسائر الفادحة التي دفعوها شعوباً وأنظمة مع شعارات القومية وفروعها. لقد قلت، واليوم أكرر إن مشروع القومية دفن، ومشروع الإسلاموية يتهاوى، فماذا بقي؟ بقي مشروع الاعتدال العربي، وهو مشروع ليس جديداً فهو كان موجوداً من قبل أن يولد أي مشروع من المشروعين السابقين\" القومية والإسلاموية\"، ولكن لسبب أو لآخر اهتم هذا المشروع المعتدل \"دينياً وسياسياً\" بالفعل والعمل على أرض الواقع، وأهمل بوضوح \"الإعلام\"، فالميكرفون بكل أبعاده وآلياته ووسائله كان أقوى سلاح استخدمه الشعاراتيون من القوميين أولاً ثم الإسلامويين ثانياً، بينما بقي مشروع الاعتدال العربي الذي تقوده وتتبناه \"المملكة العربية السعودية\" منذ توحيدها على يد الملك عبدالعزيز وحتى يومنا هذا، بقي هذا المشروع في الظل مؤثراً الصمت ومتمسكاً بالحكمة والهدوء، بل وأكثر من هذا كان الحضن الدافئ والمنبع المعطاء، الذي احتوى ودعم وآوى ضحايا القومية، واحتوى وهيأ لبذور وشتلات الإسلاموية أن تنمو وتكبر، دون أن يظن لحظة واحدة أن جزاء إحسانه وصدقه سيكون ما لاقاه من تنكر وشتائم ومحاولات زعزعة واقتلاع، فبينما كانت \"السعودية\" ومن اقتنع بمشروعها أكبر الداعمين مادياً وسياسياً لقضية العرب المركزية وما زالت، وكانت وما زالت راعية الحرمين والمقدسات وداعمة منهج الإسلام المعتدل المحافظة عليه المطبقة له حكماً ومنهج حياة، وكانت وما زالت يدها البيضاء ممدودة للقريب والبعيد من الأشقاء العرب والمسلمين، على الرغم من كل ذلك، فإن صفة \"التخاذل\" وما تبعها من تخلف ورجعية وغيرها كانت الكلمة المتصدرة في منابر وحناجر \"الشعاراتيين\"، أطلقها شعاراتيو القومية ليؤكدوا لجماهيرهم زوراً أنهم حماة القضية المركزية ومناضلوها والسد المنيع ضد العدو المتوهم الذي اصطنعوه ورمزوا له ب\"الإمبريالية العالمية\"، وأطلقها وما زال يطلقها شعاراتيو \"الإسلاموية\" ليقنعوا أتباعهم ومخدوعيهم أنهم حماة الدين والمناضلون ضد انحراف المسلمين، وصد الطوفان الذي ضخموه وهولوه ودندنوا عليه، ورمزوا له ب\"التغريب ومحاربة الكفر والانحلال وضلال ليس الكفار فقط، وإنما المسلمين المتهاونين والمستغربين الذين زعموا وما صدقوا أن السعودية راعيتهم وقائدهم بينما الهدف الحقيقي استهدافها شعباً وأرضاً ونظاماً، وغداً الحلقة الأخيرة.