تعلق بالبيئة التي يتم فيها صناعة عقل الطفل ، وتشكيل شخصيته ، فهي بيئة رعوية تمقت العمل ، وتزدري الانغماس فيه ، ولم نزل نشاهد إحجام الشباب عن الانخراط في عالم ( الياقات الزرقاء ) ،لأن المجتمع الرعوي يحتقر صاحب هذه المهنة فهو ( صانع ) والصانع عنده من طبقة وضيعة ، تجد كثيرا من قبائل الجزيرة حرجا في مصاهرته ، لأنه لا يرتقى لطبقتها الاجتماعية . وكثير من الذين غامروا في دخول هذا العالم، إنما دخلوا بسبب البحث عن وظيفة، وليس بدافع الإبداع، ولذلك كانت نسبة العمالة الوافدة في هذه المهن 91 % .( 17 ) ، وكرس هذا الواقعَ تعليمٌ لم ينجح في إعداد الشباب لهذه المواجهة . ولم يعط المتغيرات المتسارعة في عالم اليوم ما تستحق من العناية والاهتمام التي لم يعد يجدي معها اليوم إعداد الطالب لسوق العمل لوظيفة محددة، وإنما المطلوب إعداده إعدادا شاملا للعمل في أكثر من مهنة ،بحيث يكون قادرا على التكيف مع المتغيرات التي فرضها العصر . إن تحدي هذه الصورة النمطية التي تسكن لا وعينا الجمعي هي الخطوة الأولى التي يجب على الشباب أن يحطموها ، ليكونوا في مستوى التحولات التي يمر بها العالم ، وفي مستوى الطموحات التي يهدف الوطن إلى بلوغها . لكن كسر هذا الحاجز النفسي بحاجة إلى تضافر الجهود ؛ لأن تغيير المعتقدات أمر شاق ، ومن طبيعة البشر أنهم مغتبطون بمعتقداتهم ، مؤمنون بصحة أفكارهم ، وبخاصة عندما تكون نتيجة تربية أبوية يرثها الآباء كابرا عن كابر ( إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ). ولا بد أن يخرج المجتمع الثقافي لدينا من وهم ( الخوف من الجديد ) ، لأن الخوف لا يحمي عقلا ، ولا يصنع حضارة . علينا أن نتثاقف مع الأمم ، لنقف على إنجازاتهم العلمية ، ونفيد منها ، وتنفتح أمامنا كنوز العقل الإنساني الخلاق . لقد جعل الله السير في الأرض سبيلا من سبل المعرفة في القرآن الكريم ، نتأمل فيها عظمة الخالق والخلق ، وندرك ما صنعته أمم الأرض الأخرى من إبداعات ، يمكن أن نفيد منها . أما أن نكون ( عائلا مستكبرا ) ، كلاًّ على الغرب ، أينما يوجّه لا يأتي بخير ، فليس هذا من مقاصد ديننا الذي يقول : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ). وبناء هذه العقلية الجديدة يحتاج إلى استراتيجية ثقافية تتآزر فيها مؤسسات ثقافية وإعلامية عديدة ، لترسخ في نفوس الناس حب العمل ، والإتقان فيه ، و تحفزهم للعمل الكريم ، وتزرع في نفوسهم قيم الخير ؛ حتى يكونوا يدا عليا في عصر العلم ، واليد العليا خير من اليد السفلى . والأمة التي لا تأكل من صنع يديها ، لا تستطيع أن تعيش ، و لا تستحق أن تحيا ؛لأنها حريصة على الحياة بلا مبررات . إن قضيتنا الكبرى في هذا العصر هي المعرفة ؛ لأن الذي يملك المعرفة ، هو الذي يملك القوة ،والمال ، والقرار . لقد نجحت إسرائيل في إقامة دولتها ؛ لأنها اهتمت بالشباب فأصدرت ( قانون التنشئة المهنية ) عام 1953 م ، وقد ( استهدف هذا القانون تنمية الروح العلمية ، ونشر الاهتمام بالتكنولوجيا من خلال تحقيق أهداف ومهارات محددة تنفذ وتكتب على جميع مراحل التعليم ) . وقامت بتأصيل المنهجية العلمية من خلال المجلس العلمي الذي رأسه بن جور يون 1949م ، والمجلس الأعلى للتعليم العالي 1954م ، ثم المجلس القومي للبحث والتطوير 1959 م ، وبناء على هذا دخلت إسرائيل عالم الحاسبات والذكاء الاصطناعي في الثمانينيات من القرن الماضي . وفي حرب الخليج الثانية استقطبت من المهاجرين الروس 22000 مهندس ، و 5000 طبيب ، و 3400 عالم أسلحة كيميائية وبيولوجية ، و 140 عالم نووي ، و2400 عالم علوم أساسية وتطبيقية ، و 84000 عامل مهني عالي المستوى ( 19 ) . ونجحت الهند في إقامة وادي السليكون ، وماليزيا في الصناعات الإلكترونية.