المسافة.. لم تكن على قيد قول من القصيدة، ولم تكن عبور نص شعري كلاسيكي أو تفعيلة أو نثري، ولم تكن احتفالية باللغة او مبارزة بين فرسان سيوفهم القصيدة، أو سباقا على غنيمة افتراضية، بل المسافة كانت حالة من الضوء يوغل في مسامات الروح فيحيل النص الشعري الى زهرة ياسمين، والضيوف إلى حديقة حب، والمضيف الى نهر عطاء. المسافة بين مدن المملكة وجازان لم تكن سوى دعوة كريمة امتزجت بتلبية واجبة، واللقاء لم يكن مهرجانا للشعر فحسب جمع بين ضيوف من ذوي الامزجة المختلفة والمشاكسة (وهي حالة الشعراء) وهي وبين منظم مضيف استوعب كبرياء الشعراء وتناقضاتهم وحالة الفوضى التي يعيشها بعضهم، وحالة الروتين الممل التي يعيشها البعض الآخر، ولم يكن اللقاء مجرد قصيدة يقبلها المنبر ويستوبعها الجمهور أو قصيدة يمجها المنبر ويملها الجمهور، بل الإرادة (قولا وفعلا) كانت عنوان اللقاء وتفاصيل الجهد الخارق للعادة، والوان التعامل الخلاق، ولغة ما بين السطور للابتسامة المشرعة كأرض جازان، وكانت العناوين اللافتة شبابا اضمروا الحب، واعلنوا السعادة بضيوف مختلفي الطبائعات والمناخات. لن يمر مهرجان (ملتقى) جازان الثالث للشعر السعودي عابرا في ذاكرة (الكبير فكرا وإبداعا وإنسانية محمد العلي) ليس لأنه كان شخصية المهرجان وقد تم تكريمه والاحتفاء بتجربته الانسانية والشعرية، فهو يستحق ان يكون شخصية العام في الوطن كله بحيث تحتفي به كل المؤسسات الثقافية، ولكن لأن محمد العلي عايش الحب في عيون شباب جازان ونساء جازان ومثقفي جازان، كما عايشها في أرواح الجيل الجديد في التجربة الشعرية السعودية الحديثة التي كان له الأثر الكبير في بلورتها، واحتضان اغلبها، والتماهي مع بعضها، والكتابة عن بعضها، كما لن يمر على (الكبير أخلاقا وإبداعا وموقفا علي الدميني) وقد قرأ حب أهل جازان وحميمية الشعراء المشاركين، وقد كان كبيرا حينما شارك في أمسية لجيل يفصله عنه جيل آخر، وأنصت للشعراء وكأنه لم يسمع شعرا إلا في هذا الملتقى، وبارك للشعراء تميزهم وكأنه يقول: توهجكم ثمرة عطاء بدأناه منذ السبعينيات، ولا ضير أن تكونوا شعراء كبارا فلن تزاحمونا بقدر ما تضيفوا إلى تجربة الوطن الإبداعية والإنسانية لنثبت أن هذه الارض ليست (نفطا وصحراء) بل هي إنسانا مبدعا وامتدادا لأجيال اثرت الإنسان العربي على مر العصور بكل العطاءات الفكرية والإبداعية وتواصلا مع أجيال قادمة بدأت تتشكل سيكون لها أثرها وتأثيرها. ولن يمر مهرجان (ملتقى) جازان عابرا في ذاكرة المشاركين الذين أثروا المهرجان بتجاربهم المختلفة وفضاءاتهم المتنوعة وحميميتهم الغريبة والتي عادة لا يحتكم إليها الشعراء (كان الشعراء يهنئون بعضهم بعضا بعد كل أمسية.. في حالة غير مسبوقة). ولن يمر مهرجان (ملتقى جازان) دون أن يتذكروا طيبة رئيس النادي احمد الحربي وتعامل محمد النعمي الراقي وأريحية حمود أبوطالب وهدوء حسن الصلهبي وبهجة محمد حبيبي وحنو عبدالرحمن موكلي وصخب ابراهيم زولي وابتسامة علي صيقل وحيوية محمد عطيف وعلي الخبراني وعطية الخبراني ومحمد اليامي واحمد القيسي، وشفافية سمر رباح، وكثيرين أعطوا بلا حدود ربما ننسى أسماءهم ولكننا لن ننسى جهدهم وعطاءهم وتعاملهم وكرمهم. ولن يمر مهرجان (ملتقى) جازان عابرا في ذاكرة رئيس وأعضاء مجلس ادارة نادي جازان الأدبي ورئسية وعضوات اللجنة النسائية بالنادي دون أن يستعيدوا ملامح التعب اللذيذ، ودون ان يستعيدوا قراءة ملامح الضيوف التي كانت تنضح بالحب والتقدير عرافنا بما قدموه من كرم الضيافة وحسن الاستقبال والتعامل الإنساني المدهش. ولن يمر مهرجان (ملتقى) جازان عابرا في ذاكرة غرم الله الصقاعي ومحمد زايد وعلي الرباعي وعلي مغاوي حيث كانوا يعملون وكأنهم من أعضاء النادي في فضاء من اريحية غير مسبوقة من اعضاء مجلس ادارة نادي جازان لن يستطيع عليها أي ناد آخر من الاندية التي ترى ان التنظيم وادارات الامسيات والندوات حكرا على اعضاء مجلس الادارة وكأن الثقافة ملكية خاصة والاندية الأدبية اقطاعات لمثقفين لم يستوعبوا بعد أن الأندية الأدبية مؤسسات ثقافية للجميع وان رئيس النادي واعضاء المجلس ما هم إلا أدوات تنفيذية لرؤية مثقفي الوطن، ومجرد موظفين عليهم خدمة المثقف دون تأفف أو كبر، ودون ارتياب أو خوف، ودون احتكار أو مواربة. ولن يمر مهرجان (ملتقى) جازان عابرا في ذاكرة خديجة ناجع دون أن تستعيد الأخوة التي عاملها بها الضيوف وقد كانت أختا للجميع، أهدت الورود والفل، وأحضرت الأكل الجازاني من منزلها في حالة ليس لها شبيه، فضلا عن الجهد الكبير الذي بذلته خلال المهرجان، فكانت قدوة لكل العاملات في اللجان النسائية في الاندية الأدبية اللواتي اكتفين بالمسميات واهملن أدوارهن أما بسبب ضعفهن واستسلامهن لدكتاتورية وتسلط أعضاء المجلس او لانهن لا يستحقين ان يكن في تلك اللجان. ولن يمر مهرجان (ملتقى) جازان دون أن أبارك لأهل جازان جميعهم على هذا الكرم وهذا المنجز. ولن يمر مهرجان (ملتقى) جازان دون أن أقول: يظل الفعل الثقافي شاهد عصر مهما حاولت طيور الظلام أن تطفئ النور، وأن الإرادة تصنع المعجزات.