الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد : فإن الإعلام في أي دولة من دول العالم بأنواعه المرئي منه والمسموع يلعب دوراً كبيراً وخطيراً في المجتمعات التي ينطلق فيها صوته ، ويُبثُّ عبرها أثيره ، وما ذاك إلا لأنه عبارة عن وسيلة بها تكشف المعلومات الخفية التي لا يطلع عليها آحاد الأفراد ؛ إما لسرِّيتِها ، أو بُعدِها عن متناول الفرد غير المتخصص ، أو بهدف التأثير على جهة معينة ؛ عن طريق عرض استبيان منشور يتضمن حكم كاتب أو الرأي العام على تلك المعلومات -سلباً أو إيجاباً - و دوافع وجهة نظرهم تجاهها ، بل ويعرِض حلولهم بعد عرض القضية بعواهنها في الغالب . ومن هذا المنطلق كانت وسائل الإعلام إيجابية تارة -وهو الغالب - ، وسلبية في مناسباتٍ أخرى ، وأخطر ما تتعامل معه هذه الوسائل في بلادنا كآلية للضغط المصلحي – كما يدعي أصحابها – هي ما تتم على مؤسسة حكومية جليلة لها كيانها ، بل واستقلاليتها في تعاملاتها ، وهي الجهات العدلية الثلاثة و بالتعبير القانوني الحديث "السلطة القضائية " : ( المحاكم التابعة لمجلس الأعلى للقضاء ، المحاكم الإدارية التابعة لديوان المظالم ، هيئة التحقيق والادعاء العام بفروعه ) ، من خلال رصد العناوين الجذابة ، والمقالات المتنوعة في صدر الجرائد ، وإبراز العناوين الآسرة المنتقاة بعناية ، و تدبيجها ببعض تصريحات أصحاب الشأن وغير أصحاب الشأن ، وختم تغريرها بالصور التي تُعبِّر عن هوى أو انفعالِ الشارع العام ، كل هذه الأمور لا بد ولها من أن تحوز زاوية بارزة في أذهان القراء ، و أن تَرِسم شرخاً ولو صغيراً في جدار تلك المؤسسة الحكومية الرسمية ، و قد يمتد تأثيرها فضلاً عن المساس بسمعتها إلى أفرادها العاملين بها " رئيساً ، و مرؤوساً ، بل و إداريين!!". وقد تضافرت تلك الأقلام على الدندنة حول شواغل في مجال القضاء -هي في نظرهم الضبابي من القصور أو الإهمال ، فيتجاسرون بعدها على رمي ناظر القضية بالجهل أو البطالة المقننة !! أبرزُها : تأخير القضايا ، كثرة الجلسات ، وتباين الأحكام التي في ظاهرها التشابه ؛ ليحققوا دعوتهم إلى نبذ سبيل الاجتهاد والأخذ بدعوى التقنين ، وغيرها من الشواغل . . . فالذي يتجلى من هذه كله . . . أن ما تقذفه بعض وسائل الإعلام ما هو إلا محاولة جريئة للتأثير على الأحكام والقرارات الصادرة من تلك الجهات القضائية ، خاصة إذا كانت قضية لها أبعادها في الشارع السعودي ( وليست قضية المجاهر بالمعصية ونشر توبته ، وبكاء أمه ، ورجائها ببعيد عنا ) فتستغل تلك المؤثرات الجديدة والتي تزيد ضراوة أحياناً عن أثر ( الرشوة ) لتحاول غلَّ أو إطلاق – حسب القضية - يد السلطة القضائية ؛ بإحداث استنفار عام وأداة ضاغطة على القضاء ، موصلةً إلى أهداف المنتفعين من ذوي الأغراض المتعددة ، أو دعاية للوسيلة الإعلامية ، أو قد تكون لمجرد التشويش وخلقِ ساحة هزِّ الثقة في القضاة بأحكامهم ، أو الناس بهم ، ليستفحل الأمر حالَ تدخل جهات إعلامية أخرى خارجية لتناوئ الموضوع ( من جمعيات حقوق الإنسان ، و إعلامٍ أجنبية ، بل قد يتدخل السدحان والقصبي لحل هذه الأزمة في إحدى الحلقات !! ). وأشيد بنتائج دراسة قام بها شيخي الكريم د . سعد العتيبي على 100 صحيفة سعودية تناولت القضايا القضائية ، وأفاد فضيلته : ( أن الإعلاميين لا يعرفون التخصص، فكثير منهم لا يفرقون بين الأحكام الشرعية والقوانين الوضعية، وبعضهم ينادي بتقنين الأحكام، أو تدوينها ويزعمون أنه لا يوجد بلد في العالم لا يلجأ إلى التقنين أو التدوين للأحكام، وهذا غير دقيق فالبلاد الأنجلوسكسونية – ومنها أمريكا -، لا يوجد بها تقنين مكتوب، وإنما يلجأ القضاة في أحكامهم إلى السوابق القضائية، فإذا لم يوجد ما يناسب ما بين أيديهم من وقائع كان على القاضي أن يجتهد للحكم في المسألة المعروضة عليه ) ا. ه. نعم . . . ففرق كبير بين تأخيرٍ يحدث في قضية وقعت ممن لم تعهد منه الدَّنية ، وبين ممارس للرذيلة بأخته ، وبين تكرار الجِلسات بسبب عدول زوج عن تطليق زوجته ذاتِ الأبناء ، وبين زوج يضرب زوجته لأحقرِ الأسباب ، و بين حكمٍ صادر على شارب خمر في رمضان بالمسجد ، وبين شاربٍ للخمر في دولة صديقة !! لمن هنا أتى تفاوت الأحكام . ومعلوم . . بل متفق عليه أن الإعلام العالمي – الإسلامي و غيره - يتجه في غالب وسائله لتحقيق سياسةٍ مرسومة لتغيير الاتجاهات السطحية أو الهامشية لدى جمهور الناس –حقا أو باطلاً - ، أما عن الاتجاهات الجذرية فلا ولن تتغير ؛ لأنها لصيقة بالفرد مبنية على تجارب وقناعات ، ومن أظهرها الدِّين والأخلاق ، والحكم أو القرار القضائي السعودي جزء من الدين ؛ لأنه اجتهاد من مؤهل يُضاف إليه دعم هيئة استئناف ( التمييز ) لإثبات صحته ، ولكن الإعلام استطاع الوصول إلى هذه النقطة – وللأسف – بانسيابية دقيقة ، و طريق ممهد . من هنا يظهر للجميع . . أن الإعلام وعوام المثقفين ، و جهال الرأي العام قد نصَّبوا أنفسهم -في بعض القضايا- مُنتقدون للأحكام ، بل قضاةَ تمييز يطعنون في الحكم – خاصة الأحكام التعزيرية – بسبب خبر صحيفة عابر ، أو منتدى فجٍّ ساخر ، قبل أن يُميِّزه قضاة محكمة الاستئناف ، مما ينتج عنه تعرضٌ لهجوم شرس على أعضاء هيئة التحقيق ، و قضاة الدرجة الأولى ، وقضاة الاستئناف ، بتوزيع الاتهامات ، والتندر بها في المحافل . فكم سُألتُ وسمعتُ من تفوَّه قائلاً : ( لو أن القضاة يحكمون بالعدل لقطعتم يد السارق – والقضية نهبة -، و لرجمتم الزاني حتى الموت– والقضية تحرش . . . ) . ولا أشك أن أمثال هؤلاء قد تلطخوا بوحل الجهل والتسرع – خاصة في قضايا التعزير- . ولا يعني هذا مطلقا عصمة القضاة عن الخطأ ، ولكن لأصحاب هذه المناصب هيبتهم ومكانتهم ، والنقد الإيجابي هو ما كان من غير تشهير ، وما تبثه بعض صحفنا إنما هو إفصاحٌ مبطَّنٌ نستبين فيه سُقم هذا التفكير الذي استنتج أمثال هذا النقد ؛ لأن الشريعة الإسلامية قررت ضرورة حفظ الأعراض . أيها القضاة الأفاضل . . . إن الحرص على إحقاق العدالة ، بالبحث و تحري الصواب ، كفيل بأن يجعل الحكم يصدر بلا تأثر بالرأي العام ؛ فلا تدخل من أحدٍ تجاه القرار أو الحكم ؛ لا بفرض رأي - إملاء الحكم قبل الحكم - ، ولا التشكيك فيه . ومن أخص سبله إتْبَاعَ الحكمِ مسبباته وحيثياته ، ونشرها في الصحف إذ التقاضي في المملكة علني ، ولا فرق بين مجلس التقاضي و الصحيفة - إن نقلت بلا تدليس-، خاصة في القضايا الذي تثير الرأي العام ؛ حسماً لباب التنديد بأعلى سلطة بعد السياسية وهي السلطة القضائية ؛ لأن المساس بها من خلال وسائل الإعلام هتك لحرمتها ، و استجرار لغير أهل الفن أن يبدوا ما عندهم بجهل وضلالة . و أخيراً فبقدر إتقان العمل يقل المتدخلون فيه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم فضيلة الشيخ / محمد بن علي البيشي عضو هيئة التحقيق والادعاء العام بالمنطقة الشرقية وعضو الجمعية الفقهية السعودية بكلية الشريعة