يشتمل قانون العقوبات في الشريعة الإسلامية على عقوبات توقيفية وأخرى اجتهادية، فالتوقيفية هي التي حدد لها الشارع حدا معينا كالزنا، السرقة، شرب الخمر، الحرابة، القذف بالزنا، والقتل، أما العقوبات الاجتهادية فتختص بالجرائم والمخالفات التي ليس لها حد مخصوص، وتخضع الأحكام فيها لاجتهاد القاضي، وحرك تصريح الدكتور عبد المحسن العبيكان العام المنصرم بشأن تشدد القضاة في تنفيذ أحكام التعزير بالجلد هذه القضية الراكدة، مطالبا بتأليف لجنة من متخصصين من أهل الفكر وعلماء النفس والاجتماع لتقدير العقوبات التعزيرية، «عكاظ» عرضت هذه القضية على عدد من المتخصصين الذين طالبوا بترشيد هذه العقوبة والاستفادة من الأحكام البديلة التي بات يقضى بها في مختلف محاكم المملكة.. إلى التفاصيل: ألمح مدير مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور عياض بن نامي السلمي إلى أن عقوبة الجلد جاءت في الكتاب والسنة في حد الزنا والقذف فقال تعالى في حد الزنا: (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وقال في القذف: (فاجلدوهم ثمانين جلدة)، وفي السنة جاءت في حد شرب الخمر، أما في التعزيرات وهي العقوبات التي لم يرد فيها حد مقدر من الشارع وإنما ترك الأمر فيها للقاضي فقد ورد في عدد من الآثار عن الصحابة أنهم عزروا بالجلد في بعض الجرائم التي ليس فيها حد مقدر من الشارع فروي عن علي رضي الله عنه أنه جلد من سكر في نهار رمضان 100جلدة وورد عن عمر أنه جلد صبيا حتى أدمى ظهره وتركه حتى برئ ثم جلده ثم تركه حتى برئ فاستدعاه الثالثة ليجلده فقال يا أمير المؤمنين إن كنت تريد قتلي فأحسن قتلتي وإن كنت تريد برئي فقد برئت، وذلك عندما بلغه أنه يضرب آيات القرآن بعضها ببعض ويكثر السؤال عن بعض الآيات المشكلة، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)، وحمله بعض الفقهاء على جلد التأديب من غير جريمة كجلد السيد لعبده والأب لابنه وقالوا: يجوز الزيادة مطلقا من غير حد، وقال بعضهم: يجوز أن يبلغ التعزير إلى ما دون أقل الحدود 80 جلدة أو 40 وقال بعضهم بمقتضى الحديث السابق عن النبي فلا يزاد على عشرة أسواط. وأضاف السلمي.. لا ينبغي أن نظن أن الجلد هو العقوبة الوحيدة التي يعزر بها وكذا السجن وإنما جمهور الفقهاء على جواز التعزير بغير هاتين العقوبتين مما يردع الجناة، ولعل اتجاه بعض القضاة إلى عقوبة الجلد سياسة قصد بها تقليل السجناء والحد من تعدي العقوبة من الجاني إلى عائلته التي ربما تتأذى بسجنه أكثر من تأذيه هو ولذا نرى كثيرا من قضاة العصر يتجهون إلى عقوبات بديلة رأوا كفايتها في إصلاح الجاني ورده إلى الجادة وقد عقد مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة حلقة بحثية منذ عدة أشهر عن التعزير بالإلزام بالأعمال التطوعية كخدمة المحتاجين وخدمة المساجد والجمعيات الخيرية والمنافع العامة للمجتمع وقد دعي لها عدد من القضاة والفقهاء ولم يعترض أحد على العقوبات البديلة عن السجن والجلد في التعزيرات وإنما توقف بعضهم في التكليف بالعبادات المحضة في التعزير خشية تنفير الناس منها. ولذا فلا مانع من اقتراح عقوبات مناسبة لكل جريمة لا حد فيها، ولا يلزم أن يكون التعزير بالجلد أو السجن لكن لا بد أن يكون رادعا للجناة أو مقوما لسلوكهم، ولا بد من تجنب ما فيه تشويه للخلقة وتجنب ما يتعدى ضرره لغير الجاني وأن يكون متلائما مع الجناية فالرشوة والاختلاس مثلا يناسبها التعزير بالمال وكذا التعدي على الحق العام ولكن بعض الجنايات لا يناسبها ذلك والمرجع في تحديد التعزير هم علماء الشريعة المجتهدون الذين لهم خبرة بما يناسب كل جريمة ولهم الاستعانة بأهل الخبرة من علماء النفس وعلماء الاجتماع وغيرهم. مقررة شرعا القاضي في المحكمة العامة في جدة حمد الرزين قال: إن عقوبة الجلد مقررة شرعا و هذا أمر لا جدال فيه، فقد وردت نصا في الحدود كحد الزاني البكر، وشرب الخمر، والقذف، كما وردت في أبواب التعزير، فأما ما كان منها حدا فهذا أمر لا مناص منه ولا بد من إيقاعها، لأن القاعدة الفقهية المتفق عليها تنص على أنه: لا اجتهاد في مواجهة النص، وأما ما كان منها تعزيرا فالأمر فيها متروك للقاضي وتقديره للمصلحة في إيقاع الجلد كعقوبة، وعدد الجلدات وطريقتها، ولا بأس أيضا من عدم الحكم بها كعقوبة متى ما رأى القاضي أن غيرها من العقوبات أنجع في الزجر. وأشار إلى أن بعض الأنظمة العقابية الحديثة قد نصت على اعتماد عقوبة الجلد كعقوبة تعزيرية، وألزمت القاضي في الحكم بها، وذلك في نظام مكافحة المخدرات الذي نص على ضرورة عقوبة الجلد، وأن تكون بعدد خمسين جلدة في كل دفعة، مع عدم تقييد حد أدنى ولا أعلى للدفعات التي يحكم بها على المتهم. وبين أن من المجرمين من لا تجدي معه عقوبة الجلد، بل إن بعضهم يتوسل للقاضي أن يزيد عليه في الجلد ما شاء مقابل أن يخفف عنه السجن، ونحن من هذا الموقف لنا نظرتان: الأولى: أن تكون العقوبة حدا فلا نقاش في إيقاعها حتى ولو لم يتبين تأثيرها في المحكوم عليه. الثانية: أن تكون تعزيرا وهنا يجب على القاضي أن يكون ذا نظرة فاحصة، فمتى ما رأى أن العقوبة بالجلد لا جدوى منها فإنه لا يقيد نفسه بهذه العقوبة، بل ينتقل إلى بدائل أخرى قد تكون أبلغ في الردع والزجر، وقد صدرت أحكام في الآونة الأخيرة من هذا القبيل، كالحكم بالخدمة في قطاع حكومي معين، أو تنظيف المساجد، أو حفر القبور، وغير ذلك، ولا شك أن المحكوم عليه سيرتدع بمثل هذه العقوبات، بشكل أكبر مما لو حكم عليه بالجلد الذي قد يكون اعتاد عليه ولم يعد يجد معه نفعا. قاعدة فقهية رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية الدكتور أنور عشقي قال: هناك قاعدة فقهية تنص على أن «تغير الأحكام بتغير الأزمان»، فنحن في زمان متغير ويصعب أن نعزر فيه بالجلد، ولا بد أن تختلف الجزاءات، مبينا أن ذلك يعتمد على حكمة القاضي فإذا كان حكيما سيكون أدرى بما يتلاءم مع العصر. وأوضح أنه في فترة ما كانوا يجلدون شارب الخمر بالأحذية، ثم بالعصا، كما أن في عهد الخلفاء الراشدين تم العفو عن بعضهم بمجرد كلمات، فإذا افتقر القاضي إلى الحكمة فإنه لن يتمكن حينها من التمييز بين ما يضر بسمعة المسلمين أو ما يردع الجاني، وقد دلت القاعدة الفقهية على أن الأب يأثم إذا عاقب ابنه بما لن يردعه، ناهيك عن الجلد بمئات أو آلاف السياط، مشيرا إلى أنها تنتهك مكانة الأشخاص في المجتمع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، فكسر معنويات شخص كهذا وخاصة في هذا الزمان يعني تحويله لإنسان دوني، وطالب عشقي بإعادة النظر في عقوبة الجلد وأن تتدخل الجهات الحكيمة لإيقافها؛ لأن الجاني عندما تكسر معنوياته سيتخذ أساليب أخرى مختلفة ليمارس جرائمه بشكل أكبر. وأبان أن التعزير يكون بحكمة القاضي فقد يستطيع أن يعدله بتوبيخه أو سجنه أو تحويله للمصحة النفسية، مستدلا بما فعله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أوقف قطع اليد بمناسبة عام الرمادة، ثم إنه بعد ذلك كان يمنعه في بعض الظروف، وحينما جاءه وسأله رضي الله عنه إذا وجدت سارقا فماذا تفعل، قال لأقطعن يده ، فرد عليه «إن وجدته جائعا لأقطعن عنقك»، مؤكدا أن الحد الشرعي الموجود في القرآن والسنة أيضا يمكن تعطيله لفترة معينة، بما يتوافق مع الواقع، لكن لا يجوز إلغاؤه تقنين العقوبات أوضح عضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان المهندس عبد الله سابق أن التعزير بالجلد يعتبر من القوانين الوضعية التي يتم تطبيقها في الدول التي تعتمد في أنظمتها على الشريعة الإسلامية، مبينا أن الحكم بهذه العقوبة في صدر الإسلام لم يرد إلا نادرا، فكان مقصورا على الحدود التي نصت عليها الآيات القرآنية. وقال: لست مع تطبيق هذه العقوبة؛ لأنها حسب أنظمة حقوق الإنسان العالمية تعتبر مهينة لكرامة الإنسان، وبعض الحقوقيين يرى أن السجن أفضل من الجلد، مع أن نسبة الحكم بها انخفضت كثيرا عن السابق، مطالبا القضاة بالتقليل من هذه العقوبة مجاراة للوازم للعصر؛ لأن الإسلام دين صالح لكل زمان. ونفى سابق أن تكون هذه العقوبة مدرجة ضمن تشريعات أية دولة، فهي لا توجد في العالم إطلاقا، ولهذا فإن قضاياها تأخذ بعدا إعلاميا عالميا إذ أنه ينظر إليها كأمر غريب، داعيا إلى أن يتم الاكتفاء بالعقوبات التي نص عليها القرآن الكريم إن لزم الأمر وأن لا يتوسع في الحكم به؛ لأن ذلك يجلب انتقادا للدين الإسلامي، متمنيا أن تحصر عقوبة الجلد في الحدود الشرعية فقط، مع عدم تنفيذها في الأماكن العامة كمداخل المطارات أو وسط المدن أو الأسواق الكبيرة المزدحمة بالناس. وطالب سابق بتفعيل العقوبات البديلة لأنها مقبولة ونافعة لمن أراد أن يسلك السلوك السليم، فمجرد التوبيخ واللوم له في مجلس القضاء قد يكفيه، بخلاف المتمرس للجريمة فإن الجلد أو السجن وغيرهما من العقوبات لا تكون كافية لردعه أو زجره. الجرائم الكبرى أما الباحث عادل بن سليمان عبده فيرى أن تنفيذ هذه العقوبة يختلف حسب قوة الجريمة، مطالبا بالتغليظ في جرائم اغتصاب النساء والأطفال والتحرش والمخدرات وغيرها، وأن يعاد النظر في الوقت نفسه في عقوبة باقي الجرائم بما يتلاءم وسماحة الدين الإسلامي. عقوبات متنوعة رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية والأسرة والشباب في مجلس الشورى الدكتور طلال بن حسن بكري قال: إن العقوبات التعزيرية متنوعة، ربما تكون مناسبة لأعمار معينة ولا تناسب أعمارا أخرى، فالجلد للشاب مثلا قد لا يصلحه وإنما يزيد من جرمه وطيشه بعد العقوبة، ولهذا فالعقوبات التعزيرية البديلة أجدى من عقوبة الجلد أسوة بما حكم أحد القضاة على سارق من صغار السن بكتابة بحث في السرقة ولو حكم عليه بحكم مغلظ قد يجعله أكثر جرما وعدوانا ويمثل بذلك خطرا على المجتمع، وهذا لا يعني تطبيقها على الكل، فالبعض لا يجدي معه إلا التعزير بالجلد حتى يكون عبرة لغيره من المجرمين وخاصة إذا كانت جريمته متكررة. وقال عميد المعهد العالي للقضاء الدكتور عبد الرحمن المزيني: إن طرح وسائل الإعلام العالمية للقضية على أنها تمثل انتهاكا لحقوق الإنسان قد يكون له مجال؛ لأن العقوبة تعزيرية راجعة لاجتهاد القاضي، فإذا كان هناك شيء بديل ويؤدي الغرض فهذا هو المقصود سواء كان بالجلد أم بغيره ولكن إذا كان التعزير بالجلد يحدث نوعا من المردود السلبي يمكن أن يلجأ للعقوبات البديلة خصوصا وأنه ليس هناك نص يمكن الوقوف عنده يحصر عقوبات التعزير في الجلد فقط والأمر واسع، وقال: إن جدوى هذه العقوبة متفاوتة وتعتمد على حسب الجريمة فقد يكون لا ينفع فيه إلا الجلد وقد يكفي غيره، مبينا أنه لا يمكن تقنين هذه العقوبة لأنها راجعة لاجتهاد القاضي وليس فيها نص يوقف عنده. ترشيد العقوبة أوضح المستشار القانوني الدكتور عمر الخولي أنه لا يمكن الاستغناء عن عقوبة الجلد لأنها وردت في النص القرآني وليس الخطأ في وجودها وإنما في التوسع في تطبيقها، مطالبا بترشيد استخدام هذه العقوبة، كما ينبغي أن لا نستجيب لأية ضغوطات من الغرب لأن لدينا خصائص تميزنا عن غيرنا. حد أعلى وأدنى أكد رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان الدكتور مفلح القحطاني أن الحاجة ماسة إلى وضع حد أعلى وأدنى لمثل هذه العقوبات التعزيرية، مؤملا في أن تكون هناك مدونة للأحكام تحدد ذلك بحيث تضمن عدم الاختلاف في الأحكام والمبالغة في تطبيقها. وبين أن مصدر أية عقوبة شرعي وبالتالي فإن هدفها يكون لإصلاح المذنب، لكننا نطالب باختيار العقوبة المناسبة للجريمة المرتكبة، وهذه تدخل في السلطة التقديرية للقضاة وبالتالي فإمكانية وجود الاختلاف بين عقوبة قضية وأخرى واردة، موضحا أن وجود المدونة يحدد العقوبات بحيث يضمن أن يكون التفاوت بسيطا أو ينتفي تماما. شخصية انتقامية أما أخصائي الصحة النفسية الدكتور محمد الحامد فبين أن لهذه العقوبة نتائج وخيمة على الحالة النفسية للجاني إذا لم تكن بحجم جريمته فقد تجعله شخصية «سيكوباتية» انتقامية تشكل قنبلة موقوتة وخطرا على المجتمع، مطالبا القضاة بالتأني قبل إصدار الحكم على الجاني والتفكير في عواقب الحكم حتى يتحقق الغرض الحقيقي من تطبيق العقوبات.