كانت اللحية، عبر التاريخ، من أهم الفوارق الحسية بين الرجل والمرأة، وشكَّلت في العُرف العربي مظهراً من مظاهر الرجولة والعنفوان، ثم، مع الإسلام أصبح لها شأن عظيم، حين أصبحت سُنَّة حضَّ عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - القائل: "أحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى" (النسائي)، لمخالفة غير المسلمين بأصنافهم، وموافقة لفعل الأنبياء، ولتحقيق مقتضى الفطرة الإنسانية، فلم يكن يُعرف حلقها إلا فيما ندر. لكن، مع الغزو الثقافي الغربي، و"ديمقراطيته" المبنية على الحرية غير المقيَّدة، وهنا العجب! وفصل الدين عن الدولة، واستقواء الغرب بقوته العسكرية، وإنجازاته العلمية، وسيطرته على العالم، خاصة، بعد 11 سبتمبر، أصبحت "اللحية الإسلامية" في نظر الغرب، ومن تشرَّب ثقافته، رمزاً للإرهاب، بعد أن كانت، ولعقود، في نظر هذا الغرب، رمزاً للتخلف! ليطرح السؤال نفسه: لماذا نجد "رجال الدين" النصارى والعديد من عظماء الغرب، على مرّ التاريخ، خاصة العلماء والمخترعين والأدباء والمفكرين ورجالات دولة، على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم ومبادئهم، دأبوا على إعفاء لحاهم أو تقصيرها؟ لا بل، ما بال "رجال الدين" اليهود، وقد تفنّنوا في إعفاء لحاهم، دون أي تعليق أو تعقيب أو اتهام؟! لا بل، إذا كان طول اللحية هو المقياس، فيتفوق بذلك الإرهاب الصهيوني على ما يطلق عليه ب" الإرهاب الإسلامي"! المهم في موضوع إعفاء اللحية، أن الكثيرين من أبناء جلدتنا، من سيدات ورجال الأعمال و"مفكرين" و"مفكرات"، خاصة العلمانيين والعلمانيات، يرونها رمزاً للإرهاب، بعد أن كانت، كما أشرت رمزاً للتخلف، أو كما يصرحون: التشدّد أو التنطّع.. حتى العلماء الأفاضل لم ينجوا من هذا الوصف في بعض الأحايين؟! وسبب هذا المقال، جارٌ لي كان ملتحياً، ثم اضطرّ، كما يقول، لحلق لحيته قبل سفره لبلاد الفرنجة، قال: أتدرّب على حلقها، فللضرورة أحكام! وراح يُعلّل: أنه حين كان هناك قبل مدة، وكان ملتحياً "على الخفيف"، كما يقول، أرهبته تلك النظرات التي كادت تهمِّش وجهه الأسمر، فنُصح حينها، من عرب المكان، بحلقها! يتابع: كل ذلك بسبب لحية ابن لادن التي راحت الإيميلات تجوب بها شوارع الإنترنت حول العالم زنقة زنقة، لا بل حتى الرئيس الأمريكي السابق رُكِّبَتْ له لحية! لأقول: أليس هذا سخفا لا منطق فيه؟ أليس عذراً حقَّق ناشروه أجندات باطلة همها الأول مسخ هويتنا؟! هذا في مجال الهجمة الغربية، لكن، حتى الدول الإسلامية أصيبت "بحمّى إرهاب اللحية وتخلّف أصحابها"! لا بل، حتى في مجتمعنا، نجد بعض الملتحين يشعرون، وهم يراجعون بعض الشركات لطلب وظيفة، بأن "اللحية" ستُسَبِّب لهم الكثير من الإحراج والظنون، حتى لو استحوذوا على الكفاءات والخبرات! وأذْكر أن أحد "المتعطلين"، وبتدبير من الله سبحانه، حصل على موعد (واسطة) لمقابلة زوجة أحد كبار رجال الأعمال، علّه يحصل على وظيفة في إحدى شركاته، فما كان من والدته، التي تعلم خبايا الأمور، إلا وتوسلت إليه أن يحلق لحيته! وبالفعل، رضخ للأمر، ربما استخدم "التقيّة"، وذهب لمقابلة تلك المرأة، التي، كما قال: أهَّلت وسهَّلت به، بعد أن صافحها يداً بيد وهو حليق.. وحصل على الوظيفة! غلبة شرسة، تغذيها عولمة مستبدة، سلاحها الإعلام والتقنية، والقوة العسكرية، وفائض السلع، والتثاقف، وغير ذلك.. تطرد من تشاء وتقبل من تشاء.. والشاطر، كما يقولون: بشطارته.. اللحاق بجنود العولمة! بمعنى، كلما رضخ "الشاطر" للتثاقف العلماني حاز المنصب والقوة! أما المُؤَهَّل والمُلتزم فمُطالب، في كثير من الأحايين، ب "التمثيل" و"التقية"، كعنصرين مطلوبين، إلى جانب "الواسطة"، للوصول إلى تحقيق الكفاف، وليس الكرامة! حتى أحدهم، رجته زوجته، بعد 11 سبتمبر، أن يحلق لحيته! قال: طلبت مني الخروج من عباءة الإسلام الظاهري، وأن الإسلام رحب سهل، هين لين.. وأن إعفاء اللحية سُنَّة وليس فرضاً! لقد أثّر الإعلام، أقصد التثاقف، في عقلها كثيراً! هي كغيرها من النساء اللاتي تأثرن بغيرهن من نسوة العولمة المتلفزة و"الإنترنتية". وهذا، بالتحديد، ما يطمح إليه القيِّمون على أكثر وسائل الإعلام المحلية والعالمية.. السائرون على درب "العولمة المستبدة" وأعوانها.. ولكن، إذا كان المسلمون يعيشون زمن: "الْقَابِضُ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ" (الترمذي)، إلا أن الأيام يداولها الله بين الناس.. ورضي الله عن أم المؤمنين، عائشة بنت الصدّيق، التي كانت، إذا أرادت أن تحلف تقول: "والَّذِي زَيَّنَ الرِّجَالَ باللّحَى والنِّسَاءَ بالشُعُورِ".