عندما تزور وتَطَأُ قدمك المنطقة التاريخية بجدة؛ تجد المعالم الأثرية والتراثية في الحارات الأربع التي شيدت منذ قديم الزمن، وسكنها قامات من الرجال لهم بصمتهم الكبيرة في المجتمع الجداوي. تبوح المباني التاريخية بعطر الذكريات القديمة والمواقف التي لا تنسى بين الأهالي بالحارات الأربع وهي: المظلوم، واليمن، والبحر، والشام.
في هذا التقرير نسلط الضوء على من ساهم وزيَّن وشيَّد تلك المباني العريقة؛ معلم البناء بذكرياته وهمومه، وأعراف مهنته، التي ارتبطت بحياة الناس وتقاليد المجتمع الجداوي، خاض حرباً ضروساً استمرت ما يقرب من عشرين عاماً للحفاظ على صنعته من عوادي الزمن، لكنه خسرها لصالح الإسمنت الوافد الجديد، فترجل عن صهوة جواده، يكفيه اجترار الذكريات بالمشاركة في المهرجانات والفعاليات التي تستحضر ماضيه ولا يزال البعض يمارسون تلك المهنة.
في محاولة لإنصاف تاريخه المشرف، التقت "سبق" أحد البنائين التقليديين "العم أحمد أحوص"، الذي شارك بمعداته البسيطة، كالمطرقة والشاحوطة والقدوم والميزان الكدة؛ في تزيين وجه جدة بالحجر المنقبي البحري، الذي كان يأتي من بحر الأربعين المعروف بقوته وصلابته وتحمله للرطوبة.
مهندس ماهر: وأشار العم أحمد إلى أن البناء كان بمثابة المهندس، الذي يصمم البيت ويحدد زواياه ومكوناته، لافتاً إلى أنه يعد المؤسس لبيت الأسرة وواضع لبناتها الأولى.
وبين أن مساعديه كانوا يجلبون الحجر والطين لموقع البناء، مضيفاً أنه على الرغم من صعوبة المهنة، إلا أنهم كانوا يجدون متعة فيها، ولاسيما حينما يرون البناء بعد اكتماله وفرحة أصحابه به.
اجترار الماضي: وحينما يرى العم أحمد سرعة البناء حالياً، واستخدام الأدوات الحديثة؛ يستذكر كيف كان يستخدم الكدة، أو الميزان، الذي يوضع على الجدار للتأكد من استقامته والقدوم الذي يستخدم للحجر الصغير والطين أو اللبنية، التي توضع، كالإسمنت حالياً، بين الأحجار، قائلاً: البناء الآن أسهل بكثير.
بساطة ومتانة: وعن تكلفة البناء قديماً يؤكد أنها كانت في متناول الجميع: الفقير والغني، مشيراً إلى أن العمال كانوا يتقاضون مبالغ زهيدة؛ فكان أجرهم اليومي لا يزيد على خمسة قروش، بينما كانت تكلفة القطعة الواحدة من الحجر المنقبي قرشين، وثلاثة قروش لجوال الطين. تحف فنية: وبالنسبة لواجهات البيوت فقد أكد أنها كانت مسرحاً للمنافسة بين البنائين؛ حيث كان يحرص كل منهم على أن يبرز مهاراته في رسم لوحات فنية تجذب الناظرين، مبيناً أن تجار جدة كانوا يهتمون بواجهات بيوتهم وعمل "رواشين خشبية"، وظهورها بألوان زاهية.
وذكر أن من أجمل البيوت وأشهرها، والتي لا تزال موجودة حتى الآن: دار آل نصيف، ودار آل جمجوم؛ في حارة اليمن، ودار آل باعشن، وآل قابل، والمسجد الشافعي؛ في حارة المظلوم، ودار آل باناجة، وآل الزاهد؛ في حارة الشام، لافتاً إلى أن ارتفاع بعضها زاد على 30 متراً، كما يظل بعضها متماسكاً وقوياً رغم مرور عشرات السنين على بنائه.