في بلد يعد الأغنى في العالم، وفي مجتمع صناعي متقدم في علمه ومعرفته، وبين بشر متحضرين في سلوكهم وتصرفاتهم، تبرز ظاهرة مشردي الشوارع في أمريكا كبثور تشوه وجهها الجميل، وتجعل زائرها يستغرب من وجود فئة من مواطنيها تسكن الأزقة القذرة، على الرغم من برامج المساعدة الاجتماعية التي تقدمها، يجوبون الشوارع بثياب رثة، ورائحتهم كريهة، ووجوه كالحة، ونظراتهم مبعثرة بين المارة، يتسولون المال، ويحمل أغلبهم لوحات كتب عليها "أعطني مالاً"، أو "أحتاج للمساعدة"، أو "جندي سابق يتسول"، وغيرها من العبارات التي بقدر ما تثير الاستغراب، فإنها مدعاة للتفكير في أسباب تردي حال هؤلاء، وانحسار حظوظهم في العمل، والمال، والمكانة الاجتماعية، بين بشر لا تهدأ في جهدها، ولا تترك الفرص من دون الاستفادة منها، في مجتمع متقدم غني، يعد نموذجاً لكل مجتمعات العالم الأخرى. "سبق" التقت بعدد من هؤلاء المتشردين لتتعرف أسباب فقرهم، وهل الفقر في كل المجتمعات متشابه أم لكل شخص حكاية حزن خاصة به. ولعل ما يثير الإعجاب في حديثهم ل"سبق" أنهم صرحاء صادقون، ولم يحاولوا لوم الآخرين على ما هم عليه من واقع مرير..
يقول "سميث" الذي يقطن أحد شوارع سياتل الأمريكية، بلحيته الكثة، وثيابه الرثة، وبيده لوحة كتبها ويطلب فيها المال، ولم يسمح لي بالتصوير معه، إلا بعد منحه دولاراً: "أنا رب أسرة لكنني تركتهم لأنني غير مؤهل لتربية أبنائي، فأنا مدمن على الخمر، وهذه مشكلة حياتي باختصار، لم أحب قط المسؤوليات، هجرت كل شيء، وأعيش على التسول وبقايا الأطعمة من المهملات. لم أنل حظاً جيداً من التعليم؛ جربت العمل في النجارة، وكنت ماهراً فيها، لكنني لم أطق الضغط المستمر، فتركت كل شيء: العمل، والعائلة، والأطفال، وأسكن هنا في هذه الزاوية بهدوء، إن كان لديك مال فأعطني، أو اتركني واذهب".
أما "دوروثي وايت هيد" التي تسير وهي تحمل حقيبتها المتهالكة ممزقة الأطراف على ظهرها، ورغم أنها في الثلاثينات من عمرها، وتعلو وجهها لمحة من الجمال، إلا أنها تبدو أكبر من سنها بكثير، تقول: "لم يدمرني سوى المخدرات، وتدخين الماريجوانا (الحشيش). تنازلت عن كل شيء من أجل تعاطي الهيروين بشكل غير معقول، دخلت مركزاً لمعالجة الإدمان أكثر من مرة لكنني فاشلة، وأجد راحتي عندما أتعاطى وأنسى كل شيء حولي، لا تسئ الظن بي؛ أنا من عائلة متعلمة، وأحمل شهادة جامعية متخصصة في التسويق من جامعة واشنطن، وما أنا فيه من ضياع - إن أسميته ضياعاً - هو نتيجة ضعف في داخلي، وفي تقبل الحياة والتنافس عليها، لست راضية عن نفسي، لكنني ما أزال أتجول في كل المناطق بحرية، ولا يعنيني سوى أن أجد طعامي".
سألتها: "وماذا عن مستقبلك؟" فأجابتني: "عن أي مستقبل تتحدث؟ ألا يوجد لديكم فقراء في السعودية؟! اذهب واسألهم عن المستقبل. من هم في وضعنا لا يهمهم سوى اليوم واللحظة".
أما الجندي السابق "جاكسون بيلي"، الذي فاجأته نائماً على أحد المقاعد بوسط ميدان مدينة سياتل، فبادرني: "من أنت؟ لقد أرعبتني يا رجل! كنت نائماً، واعتقدت أنك رجل شرطة يريد طردي من المكان".
وبعد تعريفي بنفسي وبسؤاله عن أسباب استغراقه في النوم هنا بهذه الثياب الرثة، قال: "أنت من السعودية؟ كم هي بلاد حارة! لقد زرت الظهران عندما كنت جندياً في الجيش الأمريكي لصد صدام حسين، بالفعل ناسها طيبون. كنت تسألني عن حالتي؛ لذا أقول لك: هذه عظمة أمريكا كما يقال، فقد كنت في وقت مضى في القمة، وبوظيفة محترمة، ولدي منزل وزوجة، لكنني فرطت في ذلك، وتعرضت لحادث دراجة وأنا متعاط، فتعرضت لكسور كثيرة؛ لذا تم طردي من الجيش، وحتى الآن لم أجد فرصة عمل أستقر بها، وها أنا أهوي إلى القاع بسبب عدم محافظتي على ما كنت عليه. لكنني سأصعدها من جديد على الرغم من أنني تجاوزت ال50 عاماً.. أريدك أن تبلغ تحياتي لأهل الظهران؛ لقد كانوا لطفاء معنا".