الشعراء المعاصرون في بلادنا كثيرون، كثيرون جدا، لكن المبدعين منهم قلة، فالشعر موهبة فنية وليس علما يكتسب، وواقع الحال يشير إلى أن الشعراء الموهوبين في بلادنا ندرة، وليغفر لي كثير من شعرائنا الذين لن يعجبهم رأيي. بطبيعة الحال ليس الأمر مقصورا على شعراء الفصحى، فشعراء العامية هم أيضا ينطبق عليهم القول نفسه، فعلى كثرتهم لا تجد بينهم المبدع حقا سوى قليل منهم. وإلى جانب ذلك، فإن الشعراء أنفسهم ليسوا متماثلين في درجة حرصهم على تجويد ما يكتبون، فهم يتمايزون فيما بينهم في مستوى الرغبة في انتقاء ما يقولون، بعضهم يقبل بأول خاطر وأدنى لفظ وأقرب تشبيه، وبعضهم لا يرضيه سوى أن يكون هو المفتق للمعنى، والمبتكر للتعبير، والصائغ للتشبيه، ويتساوى في هذا شعراء الفصحى أو العامية. ولخالد الفيصل أبيات بهذا المعنى يتباهى فيها أنه يتخير شعره وليس مثل بعض الشعراء الذين يقبلون أول خاطرة تمر بهم. يا عابر الخاطر تصورت معناك لا شك، ما كل الخواطر تقال تلقى من الشعار الأقصين ذولاك من ياخذ المعنى على كل حال وأنا اتخير من معقّل مطاياك مركوبة الفكرة وافك العقال أوزن كلامي قبل يكتب بالابواك وأقلب المعنى على ما طرى لي وأظن الشاعر هنا لم يتجاوز الحقيقة، فشعره يشهد بذلك، فرغم أني لا أتذوق كثيرا الشعر العامي، إلا أني أطرب أحيانا لسماع بعض شعره فهو شاعر مبدع حقا، موهوب بالفطرة، وله كثير من القصائد التي يتلألأ فيها إبداعا ينم عن صدق الشاعرية داخله. وأظن أنه لو لم يكن شعره عاميا لعمت شهرته الشعرية أرجاء عالمنا العربي، فعيب الشعر العامي أنه لا ينتشر خارج حدود بيئته الجغرافية، هو ليس مثل الشعر الفصيح الذي لا يحده المكان. وربما لهذا السبب، كلما قرأت شعرا عاميا عذبا، شعرت بشيء من الأسف أنه مكتوب بالعامية، فالشعر العامي لا يخلد، هو عرضة للإهمال مع مرور الزمن، وذلك بسبب ما يحدث للهجات من تغير وتطور حتمي يتنامى مع مرور القرون، فيصير فهمه متعذرا على الأجيال الجديدة، وكلما بعدت المسافة الزمنية لعصر الشاعر، تضاءلت القدرة على تذوقه. وغني عن القول إن مثل ذلك لا يحدث للشعر الفصيح، الذي يظل حيا مزدهرا مهما امتدت به القرون، فالعربية الفصيحة لغة خالدة ليست محدودة بزمان أو مكان وليست خاصة بقبيلة بعينها ولا بسكان منطقة دون سواهم. هذا لا يعني أن اللغة الفصحى لا تتعرض للتغير، وإنما هو تغير طفيف لا يقارن بما تتعرض له اللهجات العامية من التغير الكبير، وأكبر دليل أننا ما زلنا نحفظ الشعر الجاهلي ونتغنى به منذ خمسة عشر قرنا إلى اليوم، بالرغم مما فيه من خشونة الألفاظ أو انقراض بعضها من قاموسنا اللغوي المعاصر.