مرت الذكرى الخامسة لوفاة الشاعر المبدع الكبير سيد البيد محمد الثبيتي.. لا تزال ذكراه عالقة في ذهني ومنظره وهو متجسد الألم مغمض العينين في طوارئ مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بجدة، كنت أقف على باب غرفته أقترب من سريره أنظر إليه بخوف ووجل أتمتم يارب كن معه لا نريد أن نفقده، كعادتي وقفت على بابه أناجي القادر الذي يحيي العظام وهي رميم. كان يوم جمعة العاشر من صفر 1421، كنت منقبض القلب تائها في أودية الفكر اقتربت من غرفته فتحت بابها كان الأطباء حوله في صمت واجمين، جثم الحزن على قلبي توفي صاحبك، أحقا رحل محمد الثبيتي!!، وتبدت أمامي صور ما زالت عالقة بذاكرتي، وسرح خيالي بعيدا وأنا أتأمله في موته، في ضفة أخرى من العالم، يكتب شعره في صمت، ويتأمل الحياة من خارج «الوعي» فيها.. كنت أرقب أوبته من «منفى الغيبوبة» وهو صامت كجسد لفظ روحه، وكمساء قرض نهاره، وكساعة حائطية تنتظر سقوط عقاربها.. تذكرت حروفه تلك اللحظة: «ليتهم حينما أسرجوا خيلهم وتنادوا إلى ساحتي أوقدوا نارهم تحت نافذتي واستراحوا.. السنة الخامسة مرت على ذكرى رحيلك المر ما كان أحوجنا يا «سيد البيد» لهذه الرقية بحروف لا ترى، وأخرى تتناسل تحت الثرى، تباح ولا تستباح.. رقية لو أن الذين تناسوك علقوها في مداخل القلوب سراجا لأضاءت لهم ما تعتم عليهم.. لكن هيهات.. ذهب «المغني» بما صدح.. وترك الرقية في أسفها تنتظر من يفك مغاليقها العصيات.. كل هذه المدة وأنا أتعزى بقصيدك الطازج العذب.. كانت بيننا صداقة «صامتة».. فصيحة في الحروف، مورقة في القصائد.. أقرأ في تفاصيل القصائد سيرة تخصني.. ووجعا يؤلمني.. كم مرة وقفت مليا أتأمله منشدا في حبور وحزن معا: «لي ولك.. نجمتان وبرجان في شرفات الفلك.. ولنا مطر واحدٌ.. كلّما بلّل ناصيتي بلّلك.. سادرانِ على الرمسِ نبكي ونندبُ شمسا تهاوتْ وبدرًا هلكْ كان ذلك هو ميثاق الصداقة الذي وقّعت عليه، وعرفت مقدار محبّتي وصداقتي الصامتة لهذا الجميل.. مضى النقي في يوم جمعه نقي مثله، وعبر النهر إلى الضفة الأخرى.. ملوحا لنا بالسلام.. ليترك لنا الحسرة والأسى.. ونحن المجبولون على «النسيان».. نثبت الحزن بدمعة «عابرة» في مفرق الحزن.. ونطوي في القلب ما تبقى من ذكرى.. ونسرج خطواتنا اللاهثة في حياة لا تمل من الحراك.. تركت الحزن يأخذ فرصته في ساحة التجمّل والتصبّر ولكني قطعا لم أنسه.. أقلب سطوره المكتوبة حروف عشقه وجنونه.. أسارقها النظر بين الفينة والأخرى فهما كل ما بقي منه في ذاكرة الأيام بحثت عن قصيدته تلك التي أرددها حنينا إليه: «ضمّني.. ثم أوقفني في الرمال ودعاني: بميمٍ وحاءٍ وميمٍ ودالْ خمس سنوات ومازلت أتعالى على حزني أعود إلى حروفه فهي لاتزال على الرف بقية من بقاياها بل هي كل بقاياه.. تنادت حزنًا لرحيله.. وحقّ لها ذلك عن صديقي المنسي.. من ترى يقرأه كما يجب أن يقرأ.. من يفض المغاليق.. ويوقد السراج لنا هذا الكون الفسيح.. من يدلني على أسرار هذا «الكائن الخرافي».. الساكن بين الحرف وظل الكلمة.. المستوطن ما بين الشمس ونصف القمر.. أبحث عمن يدلني على صاحبي وهو يعاتب في رفق «صاحبه».. في رائعته «وضّاح»، حين يقول: «صاحبي.. ما الذي غيّرك.. ما الذي خدّر الحُلمَ في صحو عينيكَ نعم أنتظر من يفكّ ذلك.. مع وضوح الرؤية حين نسقطها على الواقع.. لنرى كم من «صاحب» تغيّر مظهرا، وتخدّر الحلم في صحو عينيه، وتهجّس بالحب بين اتساع الحنين وضيق الميادين عندما طوّقته خيول الدرك.. تلك نبوءة تحسب لك يا «ثبيتي».. ستقرأها الأجيال وستعرف كم كان حرفك مسافرا عبر الزمان، ينظر بعيني «زرقاء اليمامة» بحثا عن تفرّد رؤيوي فصيح.. يا أحباب «سيد البيد».بعد خمس سنوات من رحيله لايزال الصمت سادرا والحزن مخيما نائحا.. لم أجد ما يواسيني غير شعره، فقد كتب نعيه بوعي كامل.. علّقه باكرا في شاشة قلوبنا.. «ستموتُ النّسورُ التي وشمتْ دمكَ الطفلَ يومًا وأنتَ الذي في عروقِ الثرى نخلةٌ لا تموتْ» وكم هيجت ذكراه في قلبي الأستاذة القديرة لطيفة الشعلان عضو مجلس الشورى وهي تكتب عن سيد البيد وتقول «لو كان هذا المبدع الفذ مصريا أو من بلاد الشام لطبقت شهرته الآفاق وتغنى العرب بشعره وصار نموذجا عابرا في عقولهم أسوة بمحمود درويش»، ولكن كما قال محمد حسن زيدان «إننا أمة دفانة». رحم الله شاعرنا الذي مرت السنوات الخمس على ذكراه ونحن في شغل عنه، ولكنه يظل في قلوب محبيه رغم أنه سادر في ذلك الصمت الرهيب.