جثم الحزن على قلبي وأنا أتلقى نبأ رحيل شاعرنا الكبير محمّد الثبيتي - رحمه الله - يوم الجمعة العاشر من صفر 1421ه الموافق لليوم الرابع عشر من شهر يناير 2011م، وتبدت أمامي صورة ما زالت عالقة بذاكرتي، يوم أن نقل إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة، كنت وقتها من بين من استقبلوه وهو في غيبوبته التي امتدت لأكثر من عام، وسرح خيالي بعيدًا وأنا أتأمله، رأيته في ضفة أخرى من العالم، يكتب شعره في صمت، ويتأمل الحياة من خارج «الوعي» فيها، داخل «الحزن» عليها.. وجدتني دون أن أدري أردد رائعته «أغنية»: أأنْتِ هنا؟ أأنْتِ هنا قابَ قوسينِ من أرَقِي العَذْبِ كي لا أنامْ أأنْتِ هنا يا التي أسْكنتني حدائقها وحبتني شقائقها وسقتني رحيق الغمامْ يا التي روحها لثمتْ وجعي وملائكها هدهدتْ مضجعي ثمّ أسرتْ بروحي جنوبًا وشامْ يا التي سكنتْ غرفةً لا تُمسُّ ستائرُها وحين لمستُ قيودي كانت ضفائرها فاحتجبتُ بأحشائها ألف عامٍ وعامْ وصرتُ أغنّي بلا شفتينِ وأحيا بلا رئتينِ وألجمُ بين يديها خيولَ الكلامْ رددت ذلك في سري وأنا أتابع ما يجري حتى استقرّ في سريره الأبيض.. لم ترد في خاطري صورة لامرأة «ما».. بل قرأت في محيا «أغنية» صورة له يجادل فيها «القصيدة».. وخلصت حينها إلى أن عذابه مع القصيدة «الأنثى» المراوغة انتهى بها إلى أنه «ألجم بين يديها خيول الكلام» ومضى في ذلك الصمت المديد.. مرّت الأيام على تلك اللحظة، وأن أترقب بين الفينة والأخرى إفاقته وأوبته من «منفى الغيبوبة»، تاركًا لنا أن نقرأه في هذه الحالة «الغريبة» وهو يردد: ليتهم حينما أسرجوا خيلهم وتنادوا إلى ساحتي أوقدوا نارهم تحت نافذتي واستراحوا.. ليتهم حينما أدلجوا في غياهب ظنّي بلّوا حناجرهم بنشيد السُّرَى واستبانوا صباحي إذ يُستبان الصباحُ ليتهم نظرُوني حتّى أعود فأرقيهم بالحروف التي لا تُرى.. والحروف التي تتناسلُ تحت الثَّرَى والحروف التي لا تُباحُ ولا تُستباحُ ليتهم سألوني كيف مخرتُ لهم جانب الليلِ حتّى تدلّت عناقيدهُ واستوى تحت عرش غدائرهِ قمر ناصعٌ.. وغرامٌ مباحُ.. ما كان أحوجنا يا «سيّد البيد» لهذه الرقية بحروف لا تُرى، وأخرى تتناسل تحت الثّرى، تُباح ولا تستباح.. رقية لو أن الذين تناوشك علّقوها في مداخل القلوب سراجًا لأضاءت لهم ما تعتّم عليهم.. لكن هيهات.. ذهب «المغني» بما صدح.. وترك الرقية في أسفها تنتظر من يفك مغاليقها العصيات.. هكذا كان حالي بين الترقّب والرجاء.. لعودة تحكي لنا تجربة تعكس ما في الضفة الأخرى لنهر هدّار ساحلاه «الوعي المبصر» و »الغيبوبة الجامحة».. كل هذه المدة وأنا أتعزّى بقصيده الطازج العذب.. أتأمله في الحروف الواثبات.. لم تكن بيننا صداقة بمفهوم الصداقة السائر بين الناس، وقوامها الالتقاء والحديث ومجاذبة أطرافه، بل كانت بيننا صداقة «صامتة».. فصيحة في الحروف، مورقة في القصائد.. يجذبني إلى عالمه المطلسم.. أقرأ في تفاصيل القصائد سيرة تخصني.. ووجعًا يخزني.. كم مرة وقفت مليًا أتأمله منشدًا في حبور وحزن معًا: لي ولك.. نجمتان وبرجان في شرفات الفلك.. ولنا مطر واحدٌ.. كلّما بلّل ناصيتي بلّلك.. سادرانِ على الرمسِ نبكي ونندبُ شمسًا تهاوتْ وبدرًا هلكْ وكلانا تغشّته حُمّى الرّمالِ فلم يدرِ أيَّ ريحٍ تلقَّى وأي طريقٍ سلك.. فرّقتنا النّوى زمنًا ثمّ لمّت شتات نوانا على بقعةٍ من حلكْ قلتَ لي: هيتَ لك هيت لك.. سرتُ خلف خطاكَ أجرّرُ خطو المساكينِ لم أسألكْ..!! في الصباح وقفت مليًا فألفيت صومعتي منزلكْ فاستشاطت عرى القلبِ لكنني حين أبصرتُ عينيكَ ردّدتُ: لله ما أجملكْ كان ذلك «مفستو» الصداقة الذي وقّعت عليه، وعرفت مقدار محبّتي وصداقتي الصامتة لهذا الجميل.. وأنا أنتظر عودته.. عازمًا على قول شيء له في سمعه الخاص.. شيء يدب في قلبي بخطى المحبة لا غيرها.. أليست المحبة كل شيء..؟ لكن ذلك لم يتم.. مضى النقي.. وعبر النهر إلى الضفة الأخرى.. ملوحًا لنا بالسلام.. ليترك لنا الحسرة والأسى.. ونحن المجبولون على «النسيان».. نثبت الحزن بدمعة «عابرة» في مفرق الحزن.. ونطوي في القلب ما تبقى من ذكرى.. ونسرج خطواتنا اللاهثة في حياة لا تمل من الطراد.. حمل الناعي نبأ الرحيل.. عندها سد الحزن مخارج قلمي.. واستبق الدمع مسيله إلى قلمي دون مدادي.. ما كان في الخاطر حرف يستقيم وضوحًا في حضرة ذلك الحزن الكئيب الذي جثم عليَّ.. استرجعت مردّدًا في خضوع الموقن بأمر الله وقضائه «إنّا لله وإنّا إليه راجعون».. تركت الحزن يأخذ فرصته في ساحة التجمّل والتصبّر.. وأنا أتحاشى أن أقرأ على قلبي سطره المكتوب في مجموعته الكاملة أمامي الصادرة عن النادي الأدبي بحائل.. أسارقها النظر بين الفينة والأخرى.. لم يتعد النظر صفحة الغلاف.. أنظر إلى صورته واضعًا يده على شفتيه.. أتراه يقول لي «صمتًا».. نظرته إلى الأسفل تنظر شيئًا لا أراه.. امتلأت ثقة أنهما تنظران إلى قصية في «الرمل».. رمل متحرك بين الرمز والإيضاح.. أليس هو القائل: ضمّني.. ثم أوقفني في الرمال ودعاني: بميمٍ وحاءٍ وميمٍ ودالْ واستوى ساطعًا في يقيني وقال: أنت والنخل فرعانِ أنت افترعت بناتَ النّوى ورفعت النواقيسَ هنّ اعترفن بسرّ النّوى وعرفن النواميسَ فاكهة الفقراء وفاكهة الشعراء تساقيتما بالخليطين: خمرًا بريئًا.. وسحرًا حلال.. تعاليت على حزني قليلًا.. ومضيت أطالع الصحف.. كل الحروف تنادت حزنًا لرحيله.. وحقّ لها ذلك.. لا أعتب ولا ألوم الآن.. لكني أبحث في الوجوه عن صديقي الصامت.. من ترى يقرأه كما يجب أن يقرأ.. من يفض المغاليق.. ويوقد السراج لنا هذا الكون الفسيح.. من يدلني على أسرار هذا «الكائن الخرافي».. الساكن بين الحرف وظل الكلمة.. المستوطن ما بين الشمس ونصف القمر.. أبحث عمن يدلني على صاحبي وهو يعاتب في رفق «صاحبه».. في رائعته «وضّاح»، حين يقول في نشيده الباذخ: صاحبي.. ما الذي غيّرك.. ما الذي خدّر الحُلمَ في صحو عينيكَ من لفَّ حولَ حدائقِ رُوحكَ هذا الشّركْ عهدتكَ تطوي دروبَ المدينةِ مبتهجًا وتبثُّ بأطرافها عنبركْ صاحبي.. هل ستهجسُ بالحبِّ - بين اتساع الحنينِ وضيق الميادينِ - لو طوّقتك خيولُ الدّركْ هل ستوقظُ أنشودةَ الروحِ في غابةِ الخيزران الأنيقة لو أنكرت مظهركْ صاحبي.. لا تملَّ الغناءَ فما دمتَ تنهلُ من صفو الينابيعِ شقَّ بنعليكَ ماءَ البرك.. نعم أنتظر من يفكّ ذلك.. مع وضوح الرؤية حين نسقطها على الواقع.. لنرى كم من «صاحب» تغيّر مظهرًا، وتخدّر الحلم في صحو عينيه، وتهجّس بالحب بين اتساع الحنين وضيق الميادين عندما طوّقته خيول الدرك.. تلك نبوءة تحسب لك يا «ثبيتي».. ستقرأها الأجيال وستعرف كم كان حرفك مسافرًا عبر الزمان، ينظر بعيني «زرقاء اليمامة» بحثًا عن تفرّد رؤيوي فصيح.. يا أحباب «سيد البيد».. رحل صاحبي في الصمت.. وترك لي حزينًا فصيحًا.. لم أجد ما يواسيني غير شعره، فمن الصفحة الأولى في مجموعته الكاملة؛ أدركت أنه كتب نعيه بوعي كامل.. ألم تقرؤوا جميعًا تحيته لسيد البيد.. إن كان فاتكم ذلك فاقرؤوا نعيه الذي علّقه باكرًا في شاشة قلوبنا.. ولكننا لم ننتبه: ستموتُ النّسورُ التي وشمتْ دمكَ الطفلَ يومًا وأنتَ الذي في عروقِ الثرى نخلةٌ لا تموتْ مرحبًا سيّد البيد.. إنّا نصَبْناك فوقَ الجراحِ العظيمةِ حتّى تكون سمانا وصحراءنا وهوانا الذي يستبدُّ فلا تحتويه النُّعوتْ ستموتُ النّسورُ التي وشمتْ دمكَ الطفلَ يومًا وأنت الذي في حلوقِ المصابيح أغنية لا تموتْ مرحبًا سيد البيد.. إنّا انتظرناك حتّى صحونا على وقع نعليكَ حين استكانتْ لخطوتكَ الطرقاتُ وألقت عليكَ النوافذُ دفءَ البيوتْ ستموتُ النّسورُ التي وشمتْ دمكَ الطفلَ يومًا وأنت الذي في قلوب الصبايا هوًى لا يموتْ..