كقاعدة عامة: يستمد النظام السياسي، في أي دولة، شرعيته السياسية، بصورة حصرية من الداخل. متى شابت أية مدخلات خارجية مكونات النظام السياسي، وخاصة مكانة ووضع النخبة الحاكمة فيه، فإن ذلك ينتقص من شرعيتها ويشكك، بالتالي: من استقلال قرارها وفاعليته. بالتالي: كلما كانت السلطة الحاكمة تستند إلى شرعية وطنية تعكس إرادة الناس وقناعاتهم، كان ذلك مؤشرا على صلابة الأرضية التي تنطلق منها للقيام بمسؤولياتها في أداء وظائفها، بكل كفاءة وفاعلية. لذا فإنه في ما يخص علم السياسة تتكامل مكونات الدولة بتوفر عناصر داخلية صرفة تتوج بوجود حكومة وطنية كفؤة وقادرة تتمتع بإرادة ماضية في فرض سيادتها على إقليم الدولة وتحتكر -بصورة حصرية- ولاء الجماعة السياسية (الشعب)، وفي نفس الوقت تعكس إرادته الحرة، في كنف دولة موحدة مستقلة وذات سيادة. هناك إجماع، إذن، لدى علماء السياسة في أنه متى اكتملت عناصر الدولة الرئيسية الثلاثة (الشعب، والإقليم، الحكومة) وجدت الدولة القومية الحديثة، دونما حاجة إلى أي متغيرات أخرى، يمكن في حالة وجودها أن تجرح كينونة الدولة نفسها، وقد تشكك في سيادتها واستقلالها. من هنا، فإنه ليس ضروريا على سبيل المثال: توفر الاعتراف الدولي، كشرط مسبق لقيام الدولة. الاعتراف الدولي يكون تحصيل حاصل لقيام الدولة، وليس أحد عناصر مكوناتها الأساسية. كل ذلك من أجل أن تكون عناصر الدولة ومكوناتها، ومن ثم شرعية عضويتها بين مجتمع الأمم، تستند إلى محددات وطنية بصورة مطلقة وحصرية. لهذا نجد الدول، لاكتمال عضويتها في مجتمع الأمم، لا تحتاج لاعتراف المجتمع الدولي بها. بل، بالعكس، لا يجب أن يترتب على العضوية الدولية، نتيجة الاعتراف الدولي بقيام الدولة، أي مساس بسيادتها أو النيل من استقلالها. الدولة قد تجازف بفرصة الاعتراف بها، لكنها لا تساوم على استقلالها وسيادتها. وكلما تمسكت الدولة بسيادتها وتشبثت باستقلالها، قاد ذلك لترسيخ مكانتها الإقليمية والدولية. هناك دول تأخر الاعتراف بها وبحكوماتها الوطنية، إلا أن ذلك لم يحل دون قيامها واستمرارها. على سبيل المثال: أخذ من الصين الشعبية أكثر من ربع قرن ليكتمل الاعتراف الدولي بها وتتبوأ مقعدها في الأممالمتحدة ومجلس الأمن!؟ إلا أنه لا يعني ذلك أن المتغير الخارجي ليس له دور في تحديد مصير النظام السياسي في أي دولة من الدولة، وإن كان ذلك يتم -في كثير من الأحيان- على حساب سيادة الدولة، وخصما من استقلالها، ولو بطريقة غير مباشرة وغير محسوسة، في أحيانٍ كثيرة. الدولة، أي دولة، يتأثر نظامها السياسي، ببيئته الخارجية، كما تتأثر ببيئته المحلية (الوطنية). لكن هذا التأثر بمتغيرات البيئة الخارجية يجب، في كل الأحوال، ألا ينال من تركيبة رموز ومؤسسات السلطة في داخل الدولة، لخلق مصادر غير وطنية لشرعية النظام السياسي القائم، وخاصة تشكيلة ومواصفات وشخوص رموز النخبة الحاكمة. بمعنى: أنه على النظام السياسي أن يحرص كل الحرص، على النأي بمكانة السلطة ورموزها عن تأثيرات البيئة الخارجية، من أجل تحري نقاء مؤسسات الحكم ورموزه، من أن تشكل البيئة الخارجية أحد مصادر شرعيته. من هنا تبرز مشكلة الشرعية في كثير من أنظمة الحكم في العالم الثالث، عندما يبلغ التدخل الأجنبي مداه في اختيار النخب الحاكمة أو العبث بمؤسسات الحكم الوطنية. كثير من تجارب التغيير العنيف في مؤسسات الحكم في العالم الثالث، إنما هو نتاج -بالدرجة الأولى- لتدخلات خارجية خدمة لأجندات إقليمية ودولية، سواء من أجل الإبقاء على نظام حكم قائم، أو استبداله بآخر. وما ظاهرة الانقلابات العسكرية في كثير من دول العالم الثالث، في جانب كبير منه، إلا نتاج لطغيان مد المتغير الخارجي، على ضعف وهشاشة مؤسسات ورموز السلطة في تلك المجتمعات. متى ارتبط مصير بقاء واستمرار رموز ومؤسسات الحكم بالمتغير الخارجي، تغيرت معادلة الشرعية للنظام السياسي، من الاعتماد على مصادر وطنية صلبة وقوية، إلى الاتكال على دعم خارجي غير مستقر وغير مضمون. حينها ترتبك أولويات النظام السياسي، حيث تتحول بوصلته إلى إرضاء مصادر الشرعية الخارجية، عوضا عن التركيز على فاعلية النظام السياسي وكفاءته على صعيد مسؤوليته الوطنية الأساسية. وكلما زاد التدخل الخارجي في الشأن المحلي، أحدث ذلك ضررا بمصادر الشرعية السياسية للنظام السياسي داخليا، وجعل مصيره معلقا برياح وعواصف البيئة الخارجية الهوجاء وغير المستقرة. كما أن الأمور قد تتطور لتشكل خطرا أمنيا على الدولة نفسها، عندما يواجه النظام السياسي بضغوط داخلية تجعله في خيار بين الصراع من أجل البقاء في السلطة أو الرهان، إلى ما لا نهاية على المتغير الخارجي، فتزول الحواجز بين النظام السياسي والدولة، ويصبح لا مناص من التشبث بالسلطة، لأن ضياعها يعني ضياع من يتقلدها. هنا يمثل نظام البعث في سوريا نموذجا كلاسيكيا لمعضلة الاعتماد على المتغير الخارجي لبقاء النظام في الحكم، حتى ولو كان ذلك على حساب كيان الدولة، نفسه. لقد أصبح مصير بقاء بشار الأسد في السلطة، ليس مرتبطا بإرادة الشعب السوري، بل وليس بإرادته هو. ذهاب الأسد ونظامه، يعني بصورة أساسية خروج إيران وحزب الله من سوريا، وضياع فرصة الروس للإطلالة على مياه شرق المتوسط الدافئة. لذا نجد الروس والايرانيين وحزب الله يدافعون باستماتة عن بقاء بشار الأسد في حكم سوريا، تماما كما يشكل الأسد ونظامه ضمانة استراتيجية لأمن إسرائيل. ترى هل اتضح ما نراه من إصرار لبعض القوى الدولية والإقليمية، للاحتفاظ ببشار الأسد ونظامه، خارج إرادة الشعب السوري.