من أهم عناصر الدولة القومية الحديثة، الذي يعد ركنا أساسا لقيامها، وتنفرد به بين سائر الكيانات الأخرى: وجود حكومة وطنية قادرة وفاعلة تتمتع بإرادة ماضية، في بسط سلطتها ونفوذها - دون منازع، داخلي أو خارجي - على إقليم الدولة وشعبها، وفي نفس الوقت، تحظى برضا وقبول الشعب، وتعكس إرادته في تقرير مصيره.. وترمز إلى استقلال الدولة وعزتها. وفقا لهذا التعريف للدولة القومية الحديثة، من حيث استراتيجية سلطة الحكومة ومركزية نفوذها، نجد نظام بشار الأسد لم يعد شرعيا، لا من الناحية الاصطلاحية ولا من الناحية السياسية العملية. فنظام الأسد منذ اندلاع الثورة ضده، فقد سياسيا ودستوريا وأخلاقيا، التعبير عن إرادة الشعب السوري ووحدته. هناك قوى معارضة داخلية تنازع نظام الأسد احتكار السلطة في سوريا وتعبر عن معارضتها هذه بالسيطرة على ما يزيد على 90% من مساحة البلاد، حتى لم يبق للنظام إلا حدود العاصمة القديمة وممر ضيق يربطه بمدن الساحل في اللاذقية وطرطوس عبر جزء من حِمص. نظام الأسد، إذن: لم يظهر عجزه في الحفاظ على هيبته وسلطته بين الشعب السوري، فحسب... بل نراه يفشل فشلا ذريعا في الحفاظ على الدولة السورية بحدودها الدولية المعروفة ومجالها الإقليمي البالغ الأهمية استراتيجيا.. وكذا بوضعية وأهلية سوريا الدولة والكيان بين أمم الأرض. نظام الأسد، هذه الأيام يخطط، ليبقي على هذه المساحة الضيقة من سوريا تحت سيطرته بمعاونة قوى إقليمية ودولية وتآمر أخرى، ولا عزاء لسوريا الدولة والتاريخ والشعب، بحدودها المعروفة.. وبدورها التاريخي، وبمكانتها القومية المعاصرة. لقد أذاق نظام الأسد الشعب العربي السوري الأمرين، بفقد ما يقرب من مليون مواطن سوري بين قتيل ومصاب.. وتهجير ما يقرب من ستة ملايين آخرين خارج وطنهم.. وتدمير عشرات المدن والقرى وإفراغها من سكانها.. وفرض حصار جائر عليها.. وممارسة كافة أشكال العقاب الجماعي على من اختار من أهلها البقاء فيها، مواصلين رفضهم للأسد ونظامه. نظام الأسد لم يكتف بإظهار عجزه والإمعان في تآمره على سوريا الكيان والدولة وفشله في فرض سيطرته على إقليم الدولة العربية السورية.. والحؤول دون استمرار تجريده من شرعيته الشعبية، فحسب... بل نراه يؤسس شرعية استمراره في الحكم على دعم ومساندة قوى إقليمية متواجدة على الأرض وأخرى دولية وجدت في خضم الفوضى التي تعصف بالبلاد متنفسا لعقدها التاريخية وأحلامها الإمبراطورية في التوسع تجاه مياه البحر المتوسط الدافئة. بعد أن بات نظام الأسد على وشك هزيمة نكراء أمام قوى المعارضة الوطنية المسلحة، وأظهر عجزا بينا هو وإيران وحزب الله على الإبقاء على هذه المساحة الصغيرة من الأراضي السورية، نراه يستنجد بقوى دولية لإنقاذه، مدخلا المنطقة بأسرها في أتون صراع دولي لا يعلم سوى الله إلى أي مآل يصير. إقليميا: لم يعد سرا أن إيران ترمي بثقلها من أجل بقاء الأسد ونظامه، حتى ولو لم يبق في سوريا إنسان سوى الأسد، ولم يبق من بناء قائم في البلاد سوى قصره. إيران، ومنذ اندلاع ثورة الشعب السوري على الأسد ونظامه راهنت على بقاء الأسد، لأنه كنز استراتيجي لتوسعها في الجزء الشمالي الغربي من العالم العربي، امتدادا لتوسعها، منذ بداية الألفية، في أرض الرافدين، ليتم الوصل بين امتدادها الجغرافي في العراق وتواجدها السابق على ساحل البحر المتوسط بواسطة صنيعتها حزب الله، فيتحقق للفرس حلمهم الممتد لأربعة عشر قرنا في الثأر من العرب وتهديد أمنهم القومي، اتساقا مع وجود إسرائيل وأطماع الدول الاستعمارية التقليدية والجديدة، في المنطقة. إذن: نظام الأسد لم يفقد شرعيته في حكم سوريا، فحسب... بل فقد مسوغ وجوده كحكومة وطنية تحكم باسم الشعب السوري، وتستمد شرعيتها منه مباشرة. قديما قال الفيلسوف الإنجليزي الأشهر جون لوك (1632 - 1704): «إن الدولة لا تسقط بتغيير نظامها السياسي، بل تسقط نتيجة للغزو من الخارج». بشار الأسد الذي يرفع شعار (يا أنا يا دمار سوريا)، هو لا يضحي بالدولة من أجل بقائه، فقط، وبالتالي هو يتفوق على بعض ملوك أوروبا في القرون الوسطى الذين كانوا يربطون مصير دولهم بشخوصهم، لكنه ينزع من وجهه آخر مسوح الحياء والكرامة، عندما يسمح لقوى إقليمية ودولية بالتواجد في سوريا من أجل المشاركة في حربه ضد الشعب السوري. الأسد نفسه مرة قال: إن سوريا لمن يدافع عنها (يقصد لمن يدافع عنه وعن نظامه)، مما يعني أنها ليست لشعبها!. بذلك يكون الأسد تخلى عن آخر ادعاء له بالسيادة على سوريا.. وهذا الادعاء الزائف بالسيادة من قبل الأسد - بالمناسبة - هو ما تستند هذه القوى الدولية والإقليمية الغازية لتبرير تواجدها العسكري على الأراضي السورية، وفي دعمها السياسي والعسكري المغرض لنظام الأسد. ليس غريبا، إذن أن يترك نظام الأسد لميليشيات الحرس الثوري الإيرانية التصرف العملياتي في ساحات المعارك، فيخول لتلك الميليشيات الأجنبية إدارة المعارك.. وإجراء المفاوضات، وعقد اتفاقات الهدنة، وتبادل المواقع والأسرى مع قوات المقاومة الوطنية المسلحة.. والاتصال بالمنظمات الدولية للإشراف على تنفيذ تلك الاتفاقات، وغير ذلك من المهام التي هي من اختصاص الحكومة الوطنية، في أي دولة. نظام الأسد لم يفقد مسوغات شرعيته الوطنية، فحسب... بل أضحى عارا على تاريخ سوريا والعرب تعلو جبهته وصمة العمالة والخسة، بما لم يتصف بها أي نظام حكم في تاريخ البشرية.