من أهم عناصر الدولة في العصر الحديث وجود سلطة وطنية تتوفر فيها المقدرة والإرادة لاحتكار أدوات العنف المنظم في المجتمع (شرطة، جيش، بيروقراطية، قضاء... إلخ)، وإنفاذ قرارات وقوانين مؤسساتها ورموزها، سواء برضاء الشعب أو رغما عنه، بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى تتعلق بأي مصادر أخرى للشرعية، سواء أكانت انعكاسا لنظام القيم السائد في الخلفية الثقافية والحضارية والدينية للمجتمع الذي تحكمه، أو تلك المتعارف عليها في مجتمع الدول في أي وقت من الأوقات. هنا يكون تعريف السلطة في أي مجتمع من المجتمعات في نظام الأممالمتحدة، الذي نشأ عقب الحرب الكونية الثانية، يعكس واقع حركة السلطة وقيمها السائد في مجتمع الدولة وإقليمها، وليس بالضرورة يعكس نظام القيم الذي جاء في ميثاق الأممالمتحدة من ضرورة الأخذ بالديموقراطية واحترام إرادة الشعوب في خياراتها السياسية، التي بموجبها يتم اختيار النخبة الحاكمة وتشكيل رموز مؤسساتها السيادية والتحكم في سلوك وتوجه تلك الرموز والمؤسسات، ولا حتى توخي العدالة والمساواة بين أفراد الشعب الواحد... دعك من مراعاة حقوق الإنسان، خاصة السياسية منها، التي جاءت في إعلان حقوق الإنسان الذي وقع عليه كل أعضاء الأممالمتحدة. من أجل هذا الأمر نجد هذه التعددية غير الحميدة في تشيكلة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي بموجبها يتمتع كل عضو في الأممالمتحدة بامتيازات العضوية، دون ما تعهد حقيقي ملزم بالوفاء بالتزاماتها، حتى تلك التي ليس لها طابع سياسي مباشر، مثل دفع رسوم العضوية السنوية في المنظمة الدولية. فنجد استمرار عضوية دول شمولية في الأممالمتحدة، مثل كوريا الشمالية.. وهناك دول مارقة لا تحترم قرارات الأممالمتحدة حتى تلك الصادرة من أعلى سلطة تنفيذية وتشريعية بها (مجلس الأمن)، مثل إسرائيل.. حتى أننا نجد أعضاء مؤسسين كبارا تعهدوا بالذود عن نظام الأممالمتحدة ولا يلتزمون بجدية بقيم ميثاقها، ولا حتى دفع التزاماتهم المالية تجاهها، مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تعد أكبر عضو مدين للأمم المتحدة، رغم تعهدها بدفع ربع ميزانية الأممالمتحدة السنوية! هذا لأن ميثاق الأممالمتحدة عند صياغته وحتى إقراره انحاز لمنطق الدولة التقليدي الذي استمر منذ قيام الدولة القومية الحديثة في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وحتى صياغة وإقرار نظام الأممالمتحدة بعد الحرب الكونية الثانية. من أهم التناقضات التي جاءت في ميثاق الأممالمتحدة ذلك المتعلق بنظام القيم الجديد الذي أورده الميثاق من أجل قيام مجتمع دولي يتكون من دول أعضاء محبة للسلام تحترم حقوق الإنسان وتعلي من شأن كرامته وتتمسك بقيم التعاون الدولي على حساب قيم الصراع التي كانت من أهم مواصفات الأنظمة السابقة لنظام الأممالمتحدة. كان يكفي لإقرار فقرة واحدة من ميثاق الأمم أن تعصف بهذا الميثاق وتهده من أساسه وتستبعد أي سلطان سياسي أو قانوني أو حتى أخلاقي للأمم المتحدة على أعضائها من الدول، لشمول هذه الفقرة على مبدأين أساسيين من أهم مظاهر الدولة القومية الحديثة في نسختها التقليدية السائدة قبل نظام الأممالمتحدة، وهما مبدئي السيادة وعدم التدخل. لقد جاء في الفقرة السابعة من المادة الثانية للميثاق، بالنص الآتي: «ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي للدول، وليس فيه ما يقتضي أن تحل مثل هذه القضايا بحكم هذا الميثاق... إلخ». هذه الفقرة فسرت بوضوح ما جاء في الفقرة الأولى، من نفس المادة، من ذكر لمبدأ السيادة الوطنية للدول ودعمه، لاحقا في هذه الفقرة بمبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأعضاء، حتى من قبل الأممالمتحدة. قارن هذا مما جاء في ديباجة الميثاق من ضرورة التزام الدول الأعضاء بالمبادئ الأساسية لاحترام حقوق الإنسان وصون كرامته، باعتبارها من أهم مقومات إنشاء نظام دولي جديد مستقر يسوده السلام يتكون من دول «ديمقراطية» محبة للسلام لتجنب البشرية ويلات الحروب وشرورها. باختصار، أبقى ميثاق الأممالمتحدة على أهم مظاهر الدولة القومية، منذ إنشائها، وهذا ما عاق الأممالمتحدة من تحقيق الكثير من أهدافها، وأعاق تطورها إلى منظمة أممية (Supranational Orgonization) تفوق سلطاتها وصلاحياتها سلطات وصلاحيات أعضائها. لقد احتفظ ميثاق الأممالمتحدة، كما سبق ذكره، بمبدأ السيادة بمعناه التقليدي الواسع الفضفاض لتفسره كل دولة، بما يتلاءم مع هوى نخبتها الحاكمة، بل أن الميثاق ساوى بين الدول الأعضاء في مبدأ السيادة هذا! ( الفقرة الأولى من المادة الثانية من ميثاق الأممالمتحدة ). أكثر من ذلك حصن الميثاق مبدأ السيادة هذا بمبدأ آخر، وهو: عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء في الأممالمتحدة، حتى من قبل الأممالمتحدة نفسها! (الفقرة السابعة من نفس المادة). عمليا، إذا ومن الناحية السياسية البحتة، النظام الدولي لا يعترف إلا بالدول التي تتمكن النخب الحاكمة بها أن تعبر بوضوح عن قدرتها وإرادتها في احتكار أدوات العنف والإلزام في مجتمعها وداخل إقليمها، بغض النظر عن مصدر الشرعية التي تعتمد عليه تلك النخبة في تبرير وتفسير وجودها على سدة الحكم في بلد ما. بمعنى آخر: لا يشترط النظام الدولي التأكد من أن الحكومة في بلد ما تعكس الإرادة الشعبية في داخل مجتمعها.. أو تأخذ بمبدأ التداول السلمي للسلطة.. أو حتى في سلوكها وتوجهها تعكس القيم السياسية والأخلاقية والقانونية التي وردت في ميثاق الأممالمتحدة. هذا لا يعكس فقط خللا منهجيا في ميثاق الأممالمتحدة، بل هو يتسق تاريخيا مع سلوك الدول نفسها الذي تحدده مصالحها وليس توقع احترامها لالتزاماتها الدولية كأعضاء في الأممالمتحدة، حيث لا يتوفر، على ساحة السياسة الدولية، ما يجبر الدول فعليا على احترام التزاماتها وتعهداتها الدولية. لأجل ذلك في نظام الأممالمتحدة منذ إنشائه لم تحسم قضية التمثيل فيها للدول أم للأنظمة، رغم أن الميثاق تحدث في الجملة الأولى من ديباجته بصيغة التعاقد بين الشعوب والأمم، وليس بصيغة الدول. ربما كان السبب في ذلك أنه عند كتابة الميثاق حاول واضعوه أن يتفادوا حساسية تصنيف الدول بين ديمقراطية وشمولية، لأن من بين الحلفاء المنتصرين في الحرب حكومات فاشية، بالإضافة إلى أن الكثير من الدول التي حضرت مؤتمر سان فرانسيسكو في 26 يونية 1945، خصوصا تلك التي تنتمي لمناطق جنوب الكرة الأرضية كانت أبعد ما تكون ديمقراطية.. كما أن معظم الدول الأعضاء اليوم بالأممالمتحدة كانت مستعمرات تابعة لبعض القوى المنتصرة في الحرب الكونية الثانية. هذا يفسر، إلى حد كبير لماذا النظام الدولي ما زال متمسكا بالاعتراف بنظام الأسد في سوريا، على سبيل المثال، بالرغم من أنه لم يفشل طوال فترة حكم حزب البعث لسوريا التي جاوزت الأربعة عقود، في إظهار نفسه بأنه لا يعكس إرادة الشعب السوري فحسب، بل يمارس الآن قمعا منظما في شكل إبادة ممنهجة لذلك الشعب. هذا لأن نظام الأسد من الناحية القانونية والفنية والسياسية ما زال في نظر المجتمع الدولي ممسكا بمقاليد السلطة السيادية في سوريا ويسيطر على مؤسسات العنف الرسمية في البلاد وأدواتها، حتى مع عدم سيطرته الفعلية على الإقليم السوري ووجود جماعات غير نظامية تنافسه السيطرة على احتكار قوى العنف والردع في المجتمع. إلا أن هذه الفرضية التي تربط بين العضوية في نظام الأممالمتحدة والدول، بغض النظر عما إذا كانت أنظمتها تعكس إرادة شعوبها أم لا، لا يمكن التسليم بها على إطلاقها. بعض الدول في دساتيرها ما يردع حكوماتها من الاعتراف بالتغيير العنيف للسلطة في دول أخرى، خصوصا إذا كان هذا التغيير قاد إلى التحول من نظام ديمقراطي إلى نظام غير ديمقراطي. بمعنى أن دساتير هذه الدول تمنع حكوماتها الاعتراف بأي نظام سياسي يأتي بالعسكر أو يأتي به العسكر إلى الحكم على أنقاض حكم مدني كان قائما أسست شرعيته على قواعد ديمقراطية. هذا يفسر تردد الولاياتالمتحدة وكثير من دول أوربا ودول أخرى في العالم الاعتراف بالتحول الذي حدث في مصر من عزل رئيس منتخب وتنصيب آخر معين بدلا عنه، وإن كانت هذه المواقف تتعارض مع مصالح حكومات تلك الدول. فحكومة الولاياتالمتحدة وحكومات الاتحاد الأوروبي، وحتى دول الاتحاد الأفريقي، لم تعترف رسميا بالتحول الذي حدث في مصر، هل هو انقلاب عسكري على رئيس منتخب أم تحرك عسكري لمساندة ثورة شعبية على رئيس منتخب. وإن كان هناك هدف سياسي وراء هذا التأجيل، ألا وهو إعطاء مزيد من الوقت حتى يتمكن العسكر من استكمال متطلبات إرساء الحكم المدني الجديد، الذي وعدوا به من كتابة دستور جديد أو تعديل الدستور القائم المعطل مؤقتا، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، أو حتى البدء في تلك الإجراءات. مع إبداء المقدرة على فرض الأمر الواقع الذي يريدون تكريسه، بغض النظر عن الوسيلة التي يتبعونها في ذلك، وما إذا كان النظام الجديد يحترم قيم وحركة العملية الديمقراطية، ويعكس الإرادة الحقيقية للشعب المصري، أم لا. ما ينطبق على سلوك الولاياتالمتحدة هذا، ينطبق على سلوك دول الاتحاد الأوربي ودول أمريكا اللاتينية ودول الاتحاد الأفريقي ودول مثل الهند وتركيا وكندا وأستراليا. ليس على مستوى الدول فقط حدث تطور في مفهوم الاعتراف بالأنظمة السياسية، بعيدا عن مفهوم الاعتراف التقليدي بالدول الذي لا يهتم بقضية مدى التزام حكوماتها بشرعية الإرادة الشعبية لتبوئها سدة الحكم في مجتمعاتها أو التزامهما بالعملية الديمقراطية التي تأخذ بنهج التداول السلمي للسلطة. كثير من المنظمات الدولية لم تتوقف فقط عند رفض الاعتراف بالتحولات العنيفة للسلطة بين أعضائها من الدول، بل تتجاوز ذلك إلى طرد تلك الدول من عضويتها أو على الأقل تجميد عضويتها فيها. الاتحاد الأفريقي عقب الأحداث الأخيرة في مصر، على سبيل المثال، جمد عضوية مصر، بسبب تدخل العسكر في عزل رئيس منتخب، ومصر هي ما هي بالنسبة للسياسة الإفريقية. فمصر كانت من المساهمين الأوائل في إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية، وكان لها دور بارز ومؤثر في نيل العديد من دول القارة السوداء لاستقلالها. ليس هذا فقط هو التطور الذي طال سلوك الدول والمنظمات الدولية بربط اعترافها بالدول بطبيعة وشكل نظام الحكم السائد فيها، بل إن مؤسسات تابعة للأمم المتحدة رفضت التعامل مع الحكومة الانتقالية في مصر التي جاء بها العسكر. صندوق النقد الدولي، على سبيل المثال، رفض استئناف التفاوض مع الحكومة المؤقتة في مصر حول طلب للحصول على قرض من الصندوق تقدمت به الحكومة السابقة، كما جاء في بيان للصندوق الدولي. إذن، هناك تحول في النظام الدولي يظهر جليا في سلوك وتوجه أعضائه نحو التخلي عن المفهوم التقليدي لمبدأ الاعتراف الدولي. فبعد أن كان الاعتراف الدولي قاصرا على الدول عند إنشائها بغض النظر عن طبيعة وشكل نظامها السياسي، تطور الأمر إلى تحري الربط بين قيم ومؤسسات نظام الحكم القائم في الدولة والاعتراف بأي تغيير سياسي يحدث فيها. فإذا كان التحول إيجابيا، كما حدث في مصر للنظام الذي جاءت به ثورة 25 يناير 2011، فلا بأس. أما إذا كان التحول سلبيا، فإن الاعتراف بمثل هذا التحول يثير التردد، بل وحتى الرفض. وفي كل الأحوال لا يعترف النظام الدولي الجديد بأي تغيير في النظام السياسي القائم لأي دولة يأتي بالعسكر إلى الحكم، خصوصا إذا انقلب العسكر على نظام ديمقراطي. النظام الجديد في مصر، بغض النظر عن الجدل في شرعيته، سواء أكان استجابة لإرادة شعبية تجلت في ما يسمى بثورة 30 يونيه، أو بإرادة مباشرة من الجيش، فإنه يواجه معركة على جبهتين. الأولى داخلية لا بد أن تتجلى في إثبات قدرة النظام الجديد في القاهرة على فرض قيمه ومؤسساته. الثانية خارجية، من الضروري أن يقتنع المجتمع الدولي بأن ما حدث في ليلة الثلاثين من يونيو الماضي كانت ثورة شعبية بامتياز استحقت مشاركة العسكر انحيازا لإرادة الشعب في الثالث من يوليو الحالي تم بموجبها عزل الرئيس المنتخب وتعيين رئيس المحكمة الدستورية رئيسا مؤقتا وتعطيل مؤقت للعمل بالدستور المستفتى عليه من الشعب والدعوة إلى انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة وكل ما صاحب الحدث من إجراءات. وإن كان المجتمع الدولي يتسامح كثيرا مع النظام الجديد إذا ما بدأ في إجراءات التحول إلى بناء نظام مدني تحكمه مؤسسات سياسية حقيقية تتقلد السلطة فيها رموز منتخبة، بغض النظر عن الآلية التي تجري بها تلك الانتخابات أو درجة مصداقيتها وخضوعها لمعايير إجراء الانتخابات المرعية. فقط تريد حكومات تلك الدول أن تقنع شعوبها، والمنظمات الدولية تقنع أعضاءها من الدول بأن ما حدث في مصر في الثالث من يوليو الحالي إرهاص لتطور نوعي في الحياة السياسية يبشر بديمقراطية واعدة وحقيقية. عامل الوقت هنا مهم. فهل يستطيع النظام الجديد في مصر أن يحدث اختراقا نوعيا في الجبهتين في وقت قصير. هل يستطيع النظام الجديد في مصر أن يقفل ملف الجبهة الداخلية، بأي وسيلة يلجأ إليها دون أن تؤثر سلبا على مسار المواجهة على الجبهة الثانية الخارجية. بمعنى آخر: هل يستطيع الفريق السيسي أن يفعل حصوله على تفويض الشعب المصري لمواجهة ما يسميه العنف المحتمل، وهو ما يعني عمليا وضع حد جذري وحاسم لمعارضي النظام الجديد ومؤيدي الرئيس السابق محمد مرسي، بأقل تكلفة ممكنة يمكن لأطراف الجبهة الخارجية أن يتغاضوا عنها. أما إذا طالت فترة حسم الجبهة الداخلية وغرقت مصر في فترة ممتدة من الصراع على السلطة أو تجاوزت تكلفة الإطاحة بقوى المعارضة ما يمكن تقبله داخليا وخارجيا مما قد يقود إلى حالة من الاحتراب الداخلي يتعدى صداه الجبهة الداخلية إلى الخارج، وبالتوازي: إذا لم تحقق جهود النظام الجديد نحو الانتقال إلى حكم مدني وبقي العسكر في واجهة الساحة السياسية في مصر طويلا، فإن متغيرات الجبهة الخارجية قد لا تكورن في صالح النظام الجديد في القاهرة. لم يعد في القرن الواحد والعشرين من السهل إجراء تحولات عنيفة وقسرية في أنظمة الحكم القائمة، طالما أن النخب الحاكمة فيها قادرة على الإمساك بتلابيب السلطة فيها، بشرعية الأمر الواقع، بغض النظر عن وسائلها في فرض حكمها، سواء برضاء شعبها أو رغما عنه. أي نظام حكم جديد يأتي نتيجة لتحولات عنيفة، سوف يواجه مثل هذا التحول بتحديات داخلية وخارجية معقدة، قد تحول دون استتباب الأمر له أو تدخل الدولة في منزلق خطير يهوي بها إلى ما قبل عصر الدولة.