هكذا أتصور الفوتوغرافي الأمريكي مينور وايت: روحا مرهفة مرقت بكشاف للعواطف. سبب ذلك أنه تمكن من نقل رعشات لا متناهية للصمت والكائنات والأشياء. بنقاء نادر. صاحب صوره بحساسية مفرطة ومتفاعلة مع الأشياء، فمن يلتقط ايقاع الرياح، وشساعة المناظر الطبيعية الهائلة، لا بد أن يكون عاشقا راديكاليا للجمال لهذه الحيوات والكائنات الهائمة في الطبيعة. يشبه صديقه أنسل آدمز كلاهما يحبان تصوير تخوم الأبدية معا ألقيا شباكهما البصرية لاصطياد النموذج العاطفي، والعمق الميتافيزيقي للجمال. ونجحا نجاحا بوأهما صدارة المصورين الفوتوغرافيين العالميين. نهجهما الجديد غير طبيعة التصوير الفوتوغرافي. كذلك كان تأثير مينور وايت كبيرا وراسخا على أجيال من المصورين. كان معلما شغوفا، ناقلا سخيا للمعرفة والتقنية، تجربته الفوتوغرافية عبر العالم زودته بالحكمة الفلسفية لفهم الطبيعة والبشر. أبان مينور وايت أن بين المصور وموضوعه ليست هناك حواجز. هذا الانصهار يقدم صورة متضامنة مع العالم، تخفق بروح شعرية وفكرة لامعة. تمكن ذو الشعر الابيض المرسل كندف الثلج الجوال على الطريق دائما، أن يصل بحدسه إلى جوهر الأشياء. لا يحتاج المهتم بصوره إلى الكلمات للحديث عن تجربته الفنية وإنما يحتاج إلى طقس خاص لمشاهدة صوره « صور الوعي» أو صوره المتضمنة في كتابه « طقوس وعبور» لنتغلغل إلى نسغ الاشياء وجوهر الافكار وحدود المعنى المرتعش بين الابيض والاسود. لم يعدل مينور وايت أبدا صوره لا خلال التحميض ولا أثناء السحب. كما أنه لم يعدل حياته نفسها، إذ عاشها «مباشرة» وتلقائية وصافية من تأثير الدوافع والإغراءات المادية. ولد فناننا في 9 يوليو 1908 في مينيابوليس. كان والده محاسبا ووالدته خياطة. اهتم بفن التصوير الفوتوغرافي وهو في العاشرة. درس بمسقط رأسه حتى عام 1927، ثم دخل جامعة مينيسوتا حيث درس علم النبات، وكذلك الأدب الإنجليزي، لكن افتتانه بتخطيطات وشعر وليم بليك، الفنان والشاعر الأكثر غوصا في الروح والأكثر هوسا بآلام الجحيم والشر. كان مينور وايت بالإضافة إلى الشعر والصورة متأثرا أيضا بالفلسفة الشرقية الآسيوية على الخصوص. ونشأ ذلك من قراءاته ورغبته في الالتحام بالطبيعة. عندما سينهي دراسته سيرحل الى بورتلاند هناك بدأ يطمح أن يصير فوتوغرافيا، وبالضبط قبل الحرب العالمية. في سنة 1941 قدم صوره ضمن معرض «صورة الحرية» في متحف الفن المعاصر بنيويورك. ثم في عام 1942 نظم أول معرض شخصي كبير في متحف الفن بورتلاند بعد ذلك استقر في نيويورك عام 1945 ليدرس تاريخ الفن وعلم الجمال بجامعة كولومبيا ما بين 1945 و 1946. انتقل إلى نيويورك في عام 1945، ودرس تاريخ الفن وعلم الجمال في جامعة كولومبيا في الفترة من 1945 إلى 1946. التقى وعمل مع ادوارد ويستون وألفريد ستيغليتز وغالبا ما كان يعمل مع صديقه أنسل آدمز الذي يتوافق معه في الأفكار والتصورات الجمالية. في عام 1946 أصبح مساعدا لأنسل آدمز مقتفيا خطواته بين كاليفورنيا و سان فرانسيسكو. سيخوض تجربة التدريس بمدرسة الفنون الجميلة حيث مكث بها حتى عام 1953. ثم انتقل إلى معهد روتشستر للتكنولوجيا الذي درس به من 1954 إلى 1964. وبعده بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا من عام 1965 حتى وفاته في عام 1976. وكان مينور وايت مدرسا ماهرا وناجحا ومحاضرا متمكنا وظف تجربته وتجربة الآخرين في طرائق نموذجية للتدريس. ما زالت تدرس إلى اليوم في مدارس التصوير الفوتوغرافي. أسس في عام 1952 مجلة « أبرتور» التي ستصبح مرجعا عالميا في ميدان التصوير. ثم ينشر سلسلة من المقالات حول الوعي في التصوير الفوتوغرافي والإبداع. تواصل المجلة مجدها المعرفي والجمالي إلى غاية 1974 بحيث يمنع صدورها مرضه، لكن مشاكل القلب لم تمنع الفنان من مواصلة التصوير الفوتوغرافي إلى أن داهمته نوبة قلبية في 14 يوليو 1976 حينما كان يتواجد في بوسطن. لطالما رافق معارضه بقصائد كي يمدد دلالاتها. ولطالما أيضا كسر الأعراف البيداغوجية ساحبا تلامذته إلى أرض الميدان مقدما، ليس فقط طريقة التقاط الصور ولكن تمارين حركية حول التركيز الذهني. فقد كان صاحب تصور باطني للإبداع الفوتوغرافي. أراد بهذا الوعي أن يصور الجوهر، ومن خلاله جوهر الأشياء، والطبيعة، والإنسان. الضوء الزائل، الحركة الخفية للظلال أو الأمواج، بين الحركة والجمود. بالنسبة إليه، تشارك هذه الأشياء جميعها، نظام شاسع وأبدي للعالم. لا يمكن العثور داخله على الجذور إلا من خلال العثور على الذات والتعرف على جوهرها الأصلي. كان يحسن البحث عن المناظر الطبيعية أو الكائنات التائهة. ينظر بامتنان إلى الشجرة، والظل، والكائن الحي. ويعيش لحظة الانتظار، الانتظار، راجيا أن يتحقق نوع من الاتحاد، حتى وإن لم يلتقط الصورة المأمولة، فإنه يعيش عميقا في روح الأشياء. وبذلك أصبح التصوير الفوتوغرافي بالنسبة لمينور وايت تجربة الحياة، وتأملا داخليا. أكيد أن تأثره بأنسل آدامز ونظريته المسماة «نظام المنطقة»، بمعنى الرؤية الثاقبة للاشياء وليس الرؤية المشوشة والفوضوية. وهذا ما ميز تجربته أيضا بنوع من التجريد الغنائي. عندما ننظر إلى إحدى صور مينور وايت، فإن ما يهم يكمن وراء الواقع، لأن الصورة تتحول إلى رمز، واستعارة عن عالم أعمق. تصبح الصورة الباب الضيق المفضي إلى عالم خفي وشاسع من الأحاسيس، التي تقبع خلف الموضوع الفوتوغرافي. أو بتعبير مينور نفسه: « ما أنا بصدد رؤيته، ليس ما رأيته». وأخيرا يمكن اختصار تجربة مينور وايت الفذة في كلمات ثلاث هي: «العين، والتأمل، والذهن» التي تتساوق وتتحد بالآلة الفتوغرافية والحركة والموضوع. وكأنها طقس روحي يتجاوز العالم المادي كله.