دفع الفوتوغرافي وليم أوجين سميث ثمنا باهظا مقابل سعيه الدائم للحصول على الصورة المثالية: مصور متناقض، ورجل غريب، ومتفرد. عاش كمذنب شارد ما بين الظلمة والنور. وراء صوره جميعها شحنة عاطفية وانضباط تقني وموقف أخلاقي حازم تجاه ما يلتقطه من مواضيع. تعتبر اليوم من أهم المرجعيات التقنية والبصرية في عالم الفن الفوتوغرافي وإن جاء الاعتراف متأخرا شيئا ما، لكنه تقدير مستحق لمصور أسطوري تشع من صوره قوة هائلة ومذهلة تبدأ من انخراطه في الحرب العالمية الثانية في المحيط الهادئ التي ألهمت المصور الشاب، وهو في قلب المعركة، صورا استثنائية. انتشرت صور و.أوجين سميث على أغلفة مجلة الحياة «لايف»، عن مدينة بيتسبرغ المتاهية، التي يلتهم دخانها الملوث سكانها، كما عرض صورا عن مأساة ميناماتا اليابانية، والحياة الأسرية والهندسة المعمارية، وقدم بورتريهات خالدة عن شارلي شابلن، وألبرت أينشتاين، وألبرت شفايتزر في لامباريني، وصورا أخرى عن حياته الأسرية وعن إسبانيا في عهد فرانكو الغارقة داخل الوحشية الدموية والعديد من المواضيع المختلفة الأخرى. كان أوجين سميث شاهدا حقيقيا على جراح العالم. قاده حدسه وعاطفته، إلى تغطية حيوات ومسارات من سيرة بشر معذبين ومدانين ومظلومين، كان يواجه الحرمان والرقابة بشجاعة، معركته ضد القبضة الخانقة التي فرضتها سلطة المال،كانت بلا هوادة. في مواجهة سطوة المال كان يبدو كدون كيشوت مجنون يحارب سخام وتلوث العالم وفي مقدمته مدينة بيتسبرغ، ومتاهتها التصنيعية القاتلة. تعرض مشروعه الفوتوغرافي عن هذه المدينة إلى عراقيل وضغوط عديدة، ثم سرعان ما تخلى عنه نهائيا. ولأنه الفنان الهش والعصبي، والمزاجي والعاطفي والإنساني.لم يستطع تحمل الإخفاقات والحصار الممنهج، فاستسلم للارتياب والاكتئاب والإدمان. توفي في عام 1978، وحيدا وبائسا، لا يملك في حسابه غير 18 دولارا، ولكن ثروته الحقيقية كانت تتمثل في 3000 صورة أصلية تختزل سنوات من العمل المرهق والمتواصل ومن النجاح والفشل واليأس والأمل ومن المعاناة الحقيقية بين خيارين إما إطعام الأسرة أو اقتناء الأفلام ومواد تظهيرها. كان الفنان وليم أوجين سميث عنيدا،يهيمن عليه هاجس الكمال المطلق، أي الصورة غير القابلة للتحقق. وفي سبيل ذلك كان يلتهم نفسه، غير راغب في أن يتخلى عن وضع الفنان الحر وغير مستسلم للإغراءات التجارية والخيارات الخارجية. من هنا جاءت رغبته الشخصية إلى عدم التصالح مع العالم وحتى وإن كانت حياته بئيسة، فإنه سيجعل من صوره أكثر حياة وتعبيرا عن حياة مستحيلة ومهما كان الثمن شخصيا أو عائليا. هذا هو سميث الفنان الحر في الفن ولكن السجين لقلقه في الحياة، و سعيه نحو الكمال الفني وخشية تحطيم عائلته (زوجته كارمن وأبنائه الأربعة)، كان يلجأ إلى القطيعة مع التصوير، وتحت ضغط هواجس ضرورة إنهاء مشروعه الفني، يلجأ إلى القطيعة مع أسرته. هكذا عاش أوجين سميث منشطرا بين العمل والأسرة يسحقه الاكتئاب. لكن هذه الحياة الصعبة كانت تخفي موهبة فذة وتجربة فنية عميقة. ولد وليم أوجين سميث في 30 ديسمبر عام 1918 في ويتشيتا بالكانساس. وقع مبكرا في حب التصوير الفوتوغرافي، والذي بدأه في سن مبكرة وبإيعاز من والدته التي كانت تمارس التصوير الفوتوغرافي كهواية. سيجعل أوجين من التصوير شغفه الأساسي، ومركز حياته إلى جانب الموسيقى. خلال المدرسة الثانوية، أنجز صوره الأولى عن الطائرات والرياضة. في عمر الخامسة عشر سيعمل في مجلة ويتشيتا. لكن مأساة انتحار والده في عام 1936، جراء الأزمة الاقتصادية. ستقلب حياته رأسا على عقب. سيكره خلال هذه الفترة الحرجة الصحافة التي تستغل مآسي الناس للتشهير بهم وبيع أعدادها. منحته الجامعة الكاتوليكية منحة للدراسة بها في مدينة إنديانا. لكن رغبته في تحقيق حلمه كمصور فوتوغرافي محترف دفعته إلى البوح لأمه بهذه الرغبة. ساندته أمه بقوة، فسافر إلى نيويورك. هناك سيتعلم دروسا عديدة تقنية وعملية. في عام 1937 تمكن من الالتحاق بمجلة نيوزويك كمراسل مصور، ولكنه طرد بعد سنة، لأن صوره الصغيرة كانت لا تستجيب لمتطلبات المجلة الفنية. ثم سيلتحق بالوكالة الصحفية للتصوير الفوتوغرافي (بلك ستار: النجم الأسود) كمتعاون مستقل. سيعمل بها حتى العام 1943. سينشر صوره أيضا في هاربر بازار، و نيويورك تايمز، ولايف. لكن هذه الأخيرة كانت تصيبه بخيبة أمل وإحباط متواصل، لأنها كانت تكتفي بنشر صورة واحدة من بين عشرات الصور التي يتكون منها الروبورتاج الصحفي الذي ينجزه. لم يجد العزاء إلا في الموسيقى الكلاسيكية والجاز خاصة. لكن افتتانه بالحرب العالمية الثانية ستدفع إلى الإصرار بشتى الوسائل للمشاركة فيها مصورا فوتوغرافيا ضمن مجموعة المصورين الجويين التي كانت تحت إشراف إدوارد ستيشن. لكن صوره لم ترق للمشرفين، فصرف من العمل. سيلتحق بمجلة «فلايينغ» التي ستعينه مصورا حربيا على متن الطائرة الحربية «الاستقلال» ثم سيتنقل من موقع إلى آخر ترافقه الموسيقى التي لم يستطع الانفصال عنها بحيث كان يصحب معه جهاز الفونوغراف إلى كل مكان حتى على جبهة المعارك. سيعود إلى نيويورك، لكنه لم يستطع البقاء دون عمل، فعاد مرة أخرى إلى مجلة «لايف» كي يشتغل كمراسل حربي مدة ثلاث سنوات. في 22 ماي 1945 أوكيناوا سيصاب إصابة بليغة في رأسه. ستجرى له عدة عمليات جراحية لإنقاذه، استغرقت سنتين. ولم يستطع متابعة عمله الفوتوغرافي إلا في 1947. لكن عمله كان مضطربا وبدأ إلهامه ينسحب منه وكأنه غرق في بئر مظلمة سحيقة. في عام 1954 وبينما هو يتجول رفقة ابنيه داخل الغابة، أنجز صورة فريدة لهما وهما غارقان تحت ظلال الأشجار. يقول أوجين سميث عن هذه اللحظة الحاسمة: «عندما كنت أمشي خلف ابنيّ باث وخوانيتا تحت ظلال الأشجار ثم إلى مجموعة من الأشجار الكبيرة كما لو كانا يستمتعان بكل اكتشاف من اكتشافاتهما الصغيرة. ولما كنت أراقبهما علمت فجأة أنه رغم كل شيء، رغم الحروب جميعها، والخسارات كلها، أردت في ذلك اليوم وتلك اللحظة بالتحديد أن أغني نشيدا للحياة وإلى شجاعة الاستمرار في الحياة» حينما التقط هذه الصورة، لم يكن يعلم أنه مازال بمقدوره ذات يوم أن يعود لالتقاط الصور الفوتوغرافية. كانت لحظة انبعاث جديد، مكنته من هزم سنوات رهيبة من الغياب عن العالم. ويضيف أيضا: «في هذا اليوم، وللمرة الأولى منذ إصابتي، كنت أريد أن أختبر عمل الآلة الفوتوغرافية مرة أخرى. هل يمكنني التحكم بها. كنت أريد إجبار جسدي للسيطرة على الكاميرا، وبالتالي كنت أحاول إرسال طلب إلى ذهني كي يخرج من المنفى. كان ثمة حاجة ملحة، أن تكون هذه الصورة الأولى فاشلة. كنت أصلي للرب أن أتمكن من إدخال الفيلم داخل الكاميرا. أردت حقا أن تكون هذه الصورة الأولى أغنية، وشيئا يتجاوز التقنية إلى لحظة عذبة من النقاء مستوحاة من معارضة وحشية الحرب الفاسدة التي صورتها خلال الحرب والتي كانت آخر صوري. كنت يائسا تقريبا من إصراري العنيد، لمعرفة السبب : كانت هذه صورة الأولى ذات جودة عالية. لم أفهم أبدا لماذا جاءت من لقطة واحدة وليس ثانية. ولو لم تحدث ذلك اليوم، فإنها لن تحدث في الأسبوع التالي. ثم في ذلك اليوم، دخلت في تحد لإنجازها، ضد أعصابي، وضد عقلي. أيا كان السبب، وربما هو أكثر تعقيدا من ذلك، فقد شعرت، دون قرار محدد، أن ما حدث هو قرار روح». تلقى في 1961 طلبا غير متوقع من شركة هيتاشي للذهاب إلى اليابان لمدة عام. ولكن الصدام بين اليابان الحديثة وتقاليد الأجداد ما أُثار إعجابه. بعد ذلك سيحاول إنشاء مجلة، ثم سيحاول تلبية مصاريف الأسرة ومستلزمات التصوير مشتغلا بالتدريس وإعطاء محاضرات في ندوات ومدارس،لكن متحدثا خصوصا عن الموسيقى وليس التصوير. في عام 1971 ستكلفه شركة غوغينهايم بإنجاز روبورتاج عن منطقة «ميناماثا» وهي قرية يابانية اكتسحتها آفة التلوث بالزئبق. يقطنها صيادون مصابون بنفايات المصنع الكيماوي «تشيسو». سيعيش في القرية ما بين 1971 و1974 في فقر مدقع كي ينجز عمله، لكنه سيصاب بالوباء ويفقد بصره نهائيا. بعدها سيرحل إلى وطنه. سيصدر كتابه عن هذه الكارثة البيئية عام 1975. سيجوب الكتاب العالم بأسره إذ يعتبر اليوم مرجعا جماليا عن التصوير الفوتوغرافي الحقيقي ذي الأبعاد الفنية والإنسانية. مؤكدا أسطورة الفوتوغرافي وليم أوجين سميث: الإنسان والفنان. في 1976 سيمنح أرشيفه المكون من أحد عشر طنا من الصور والأفلام والوثائق إلى جامعة أريزونا في توكسون، حيث كان يدرس في فترة من الفترات. وفي عام 1978 سيرحل أسطورة الفن الفوتوغرافي وليم أوجين سميث: الإنسان والفنان.