رسالة واحدة من خمسة اسطر من الدكتور «جمال الطويرقي» غيرت كل مجرى يومي وقدمت بعدها إلى «الرياض» ذهبت للرياض وسلة دموع في يدي.. كنت أشتهي أن الغي هذا الصباح فقد كان صباح غياب كنت أتخيل كل دمعة في هذا اليوم في العالم تذرف من أجله على غيابه.. أشد ما كنت أخشاه هذا اليوم أن تفضحني حواسي في الطائرة فالعين التي كانت تبرق برغبة الشوق وهي ترى أرض «الرياض» اليوم تحمل شعورا بالكآبة والحزن.. كنت أحاول أن أقوم بدور القوي، دور في تمثيلية صباحية أنا الممثل خفت المتفرجين، كان عقلي يحاول أن يمنعني من البكاء استخدمت كل شيء من أجل إجادة الدور وفجأة انفك الرباط الذي كان يربطني بالدور فتهاويت.. أدرت وجهي نحو نافذة الطائرة وانهمر الدمع كالسيل دوري انتهى أراه يطير في السماء كمظلة القفز التي فقدتني كانت الساعات الأخيرة ل(أبو سمير) «عبدالرحمن الطويرقي» لم يعد يطيق التحمل.. أمسكنا به وكدنا نقنعه بكل عقار طبي للبقاء ولكنه أفلت منا.. أفلت الطيب الصافي كالعسل من له قلب ارق من الورد أفلت بلهاثه المتقطع ونفسه الصعب..استقللت العربة كان الأسفلت يرقد بحزن على كتف ضباب الرياض والعمارات نائمة في شرفاتها الكالحة والأبواب الصاج الحديدية مغلقة على المحلات كل شيء كان مكدرا هذا الصباح في «الرياض» كل شيء كان يقول لي الحياة هي كذلك يا أبا فراس! ما نحن فيه هو مجرد حياة مؤقتة أشبه بما يجري في الأفلام ينتهي كل شيء فيها ما إن تظهر كلمة «النهاية» ليختفي بعدها الممثلون ويختفي معهم العالم الذي افتتنا به.. اليوم ادركت ان قضاء الله نفذ وأن «الوجيه» لم يعد بيننا.. دمعة صغيرة تهبط على خدي وانا أقف بالباب تستقبلني «هنادي» تحدثني عنه عن اللحظات الأخيرة والمعبرة والحنان الخالص والتفاهم بالإشارات والتواطؤ بالأرواح والأجساد ضد أذى الألم عن رائحة المستشفيات الملطخة بالديتول والأسرة البيضاء والتفاقم اليومي للمرض عن اقتراب الموت في الممرات وفجيعة البنت حيال جسد أبيها ليغفو للمرة الأخيرة بين يديها.. تتحدث إلي «هنادي» يا وجيه وأنا أحتضنك بقلبي أبحث عن كلمة منك هجرتني.. عن حرف جميل هرب منك إلي.. لا أعثر في ذاكرتي إلا على كلمات طيبة لك أو عنك أو إليك.. تظل خيال «أبي» في روحي وجسدي كنت أبي نعم كنت ابي.. يا لكذبة الحياة المريرة.. أي سر فيك أيها الطيب الذي يجعل كل وجوه المعزين أشبه بعلامة سؤال تبحث عنك في غيابك.. زوجتك «أختي» تقول لي كيف لي بهواء غيره.. وأي ضوء سأجده بعيدا عن عينيه.. السماء لك يا وجيه والجنة والأرض صعبة بدونك.. لماذا لا نراك إلا طيبا.. لكم غسلنا جروحنا بماء حلمك وصبرك وجلدك وحبك.. لقد أصرت المسكينة قبل دخول جثمانك المسجد أن تلقي نظرة أخيرة عليك.. كان «منير» كريما كعادته فلم يحرمها من أن تنظر إليك النظرة الأخيرة وتشتم ورد جبينك المعطر.. أناجيك يا طيب أتساءل هل حقا فارقتنا ابتسامتك.. ابتسامة «عبدالرحمن الطويرقي» تلك الابتسامة الشفافة النقية الطاهرة.. من لا يتذكر ابتسامتك «يا وجيه» تلك الابتسامة التي تشي بطيبتك وحبك للبشر.. تلك الابتسامة التي لازمتك حتى آخر يوم في حياتك كانت تلك الابتسامة تكلفك جهدا كبيرا في أيامك الأخيرة ولكنك لم تكن تريد ان تكون سنبلة ذابلة حتى وإن خفت صوتك وأصبح كحمامة تهمس.. حتى وأنت مقطع الأوصال من الألم.. الأرض لن تنسى كل خطوة مشيتها عليها لفعل الخير وسنحكي عنك في سرنا وسيزهر الورد على ألسنتنا بذكراك فنحن نحبك رغم سفرك المفاجئ إلى سماء النسيان واختفائك في الغياب.. لكم تمنيت اليوم «يا وجيه» أن أدفع عمري مقابل ان تعود إلى الحياة ولو ليلة واحدة لأحمل ابتسامتك العذبة فوق كفي وأطوف بها العالم.. اعذرني يا حبيبي فنحن البشر دائما حالمون برؤية من نحب لنكمل حديثنا معهم.. ولكن من قال إن حديثنا انتهى سأناجيك ما حييت.