فتى يافع.. في التاسعة عشرة من عمره، يتلقى مكالمة هاتفية من خاله.. أسرع إلى المستشفى وشقيقتك معك، إنها المكالمة التي كان يخشاها.. أسرع الفتى ليوقظ شقيقته ويصطحبها معه مسرعا.. في الطريق كل الأفكار تتدافع إلى خاطره وهو يزيحها بعيدا عنه.. في المستشفى يصدع مهرولا إلى الدور الرابع.. يقفز الدرجات اثنتين وأحيانا ثلاثا.. تتثاقل خطاه عندما يقترب من الدور الرابع، لم يستغرب وجود والده.. رغم أننا في ساعة متأخرة من الليل. يلتفت الأب ليشاهده مقبلا.. فيهرع إليه ويحتضنه قائلا.. بني، أمك لم تعد تستطيع البقاء، لقد غادرتنا إلى مكان أكثر أمنا وهدوءا، لا يا أبي.. لا تقل هذا، صاح الفتى والدموع تنهمر من مقلتيه.. أرجوك أخبرني أين هي؟ أريد أن أراها.. أن أحدثها، لم أكمل معها حديثي بعد، ما أكثر ما أريد أن أقول لها قبل أن ترحل، أرجوك يا أبتي. توجه الفتى بدموعه وأحزانه وآلامه إلى الباب الذي أشار إليه أبوه.. أقبل مترددا، هل يفتح الباب؟ أم يعود أدراجه وينهي هذا الحلم البغيض؟ وماذا تراه سوف يرى خلف هذا الباب الكئيب؟ استجمع الفتى قواه واستدعى شجاعته.. ودخل يبحث عن أمه، ويا له من مشهد، شاهد أمه متشحة بالبياض وقد اعتلت ثغرها ابتسامة لم يشاهد مثلها من قبل.. لقد كانت ابتسامة من فرحت بلقاء ربها واستنشقت عبير جنته.. كانت ابتسامة أمه غادة الحوطي التي صارعت المرض الخبيث طوال عامين وانتصرت عليه في ذلك المساء بالانتقال إلى الفضاء الأرحب.. فضاء رب العالمين. أما الابتسامة.. فلقد كانت أنجع مسكن لآلام الفتى في ذلك المساء وطوال السنوات الثلاث التي تلتها. اليوم يقدم لكم الفتى قائمة كتبها بعنوان.. آه لو، وهو يهديها كل إنسان لكي يعرف مقدار «غلاوة» الأم.. التي لا يعدلها شيء، آه يا أمي.. لو كنت أستطيع أن أتأمل وجهك الجميل ولو للحظة، أو لو كنت أستطيع أن ألمسك.. أن أحتضنك.. أن أخرج معك، آه لو كنت أستطيع أن أعود إليك من المدرسة لأقبل يديك وأخبرك عما فعلت وكيف أصبحت قائدا لفريق كرة القدم، لو كنت أستطيع أن أشاهد ابتسامتك ونظرة الفخر في عينيك وأنت تصغين إلي، آه لو كنت أستطيع أن أجلس معك على طاولتنا المستديرة.. فقط.. أنت وأنا لأحدثك عن نفسي وأصدقائي وتحدثينني عن عملك وبرامجك، آه لو كنت أستطيع أن أطرد أحزاني بالبكاء على كتفيك.. أو أن أضع رأسي على قدميك وأبثك نجواي وأساي وجراحي وألمي وأحاسيس روحي الحارقة، آه لو كنت أستطيع أن أحظى منك بقبلة على جبيني وكلمات تعيد إلي يقيني وتزيح عن قلبي كل همومي.. ويداك تداعبان شعري برقة، آه لو كنت أستطيع أن أستمتع معك بمنظر الغروب ونحن نرتشف الشاي بالحليب، آه لو كنت أستطيع أن أطالع عمودك الأسبوعي في الصحيفة.. وانتباهي بك أنت..أمي التي أنجبتني وعلمتني وربتني، آه لو كنت تستطيعين أن تتعرفي على أصدقائي.. هؤلاء الذين أحبوك حتى دون أن يعرفوك، آه لو كنت أستطيع أن أتسلل إلى حجرتك ليلا لأشاهد معك التلفاز.. حتى إذا ما غلبني النوم ودعتني بقبلة ثم دفعتني لأعود إلى حجرتي، آه لو كنت تعرفين أنني مازلت أتواصل مع صديقاتك وأحرص على زيارتهن كلما عدت إلى أرض الوطن، مدركا أن في ذلك ما يرضيك ويبعث السرور في قلبك، آه لو كنت تعلمين كم يحبك الناس وكيف يذكرونك.. كل من عرفك منهم أو فقط سمع عنك، آه لو كنت تعلمين ما أصعب الأوقات التي أمضيها حائرا مضطربا مفتقدا لنصحك وإرشادك، آه لو كنت أستطيع أن أسمع صوتك ينساب إلى وجداني بعذوبة وهدوء ويعطيني الأمان الذي أبحث عنه، آه لو كنت تعرفين كيف أن والدي عبدالله يمدني بحبه ورعايته وعطفه وأنه أجمل ما تركت لي بعد غيابك، آه لو تعرفين كيف أن شقيقتي غالية ترعاني وتهتم بي وتجعلني شغلها الشاغل، آه لو كنت أستطيع أن أفعل كل ما ذكرت وأكثر ولو لمرة واحدة فقط، لو أنني استطعت لكنت يا أمي أسعد الناس وأكثرهم حظا،! أماه، أحبك إلى الأبد.. ونسيانك محال.. والحياة بدونك ليس لها مذاق، فليرحمك الله يا أماه.. وأدعو الله أن الفتى الذي تركته في التاسعة عشرة من عمره سوف يغدو رجلا تفخرين به كبيرا..وحشتني يا أمي، ذكراك هي مفتاحي لكل الأبواب المغلقة في حياتي. ملاحظة أخيرة.. لم أكتب ما كتبت لكي أثير أحزانكم أو أستثير شفقتكم.. لقد كتبته ليدرك كل إنسان يحظى بوجود أمه كم هو حظيظ بذلك.. ولكي يدرك مدى النعمة التي يعيشها وأن يستمتع بكل لحظة مع أمه.. فلا أحد يعرف ماذا تخبئ له الأقدار، ومتى يغادرنا الأحباب ولا يبقى لنا إلا أن نهتف.. آه لو. ابنك فيصل كيال