خمس سنوات مضت على رحيل أب الرواية الجزائرية الأديب الروائي الطاهر وطار، الذي شكل دوما علامة فارقة وعلى مفاجآت التاريخ، وهو يصنع رموزه.. ذلك أن الرجل كان دوما فاعلا في التاريخ: كمجاهد أولا، وكمثقف آمن بجزائر الحرية. فانخرط في نضال البناء والتّأسيس، لحظة ذلك الحلم الطوباوي الجميل بمدينة فاضلة. وببلد مزدهر ومتطور، ينافس الشعوب والأمم الأخرى، وبعدالة اجتماعية تمنح الجميع الحق في الوجود. إن الطاهر وطار احتفاء بتاريخ كامل من النضال، وبمسار نموذجي لكاتب انخرط في التزام مسؤول بقضايا شعبه، فكانت أعماله الإبداعية لصيقة بطموحات وبآمال وآلام الشعب. منذ رواياته: الزلزال، والحوات والقصر، والعشق والموت في الزمن الحراشي، وعرس بغل، والولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي، إضافة إلى قصيدة في التذلل، التي كتبها على فراش المرض وتطرق فيها إلى علاقة المثقف بالسلطة. هذه الأعمال التي واكبت مسار بناء المجتمع الجزائري، والتحولات السياسية التي عرفها، فكانت شهادات عن خيبات ما بعد الاستقلال، وانهيار حلم الشهداء، فكانت نقدا للنظام الأحادي، وللبيروقراطية الحاكمة، فاستحق بجدارة لقب الكاتب السياسي، هذا اللقب الذي لا يناله إلا الكاتب الذي يزعج طمأنينة الأنظمة، فهو مثل إسماعيل كاداري، وسولجنتسين، وغونتر غراس. كاتب برع في جمالية النقد السياسي، كما أن تجربته الإبداعية الطويلة، جعلته ينتقل من الواقعية الاشتراكية إلى واقعية أسطورية في رواية: الحوات والقصر، إلى الرمزية الصوفية التي طبعت أعماله الأخيرة، دون التخلي عن الحضور الباهر لأحداث التاريخ وما عاشته الجزائر من مآس في سنوات التسعينيات الأخيرة عن بنية عمله، ذلك لأنه عرف كيف يجنب أعماله السقوط في الكتابة الاستعجالية التي تكتفي برصد الأحداث، ولكنه ارتقى بالوقائع التاريخية إلى الأبعاد الرمزية، بحيث فتح رواياته على التأويلات المختلفة، وعلى الكثافة التي تبقي الأسئلة حاضرة، دون أن تمنح الأجوبة اليقينية، هي كتابة السؤال والمساءلة، بحيث يكون حضور الرمز شفافا كثسفا، لا يفك خباياه إلا القارئ الفطن، والباحث الأريب. في اختياراته الجمالية هناك هذا الحضور الباذخ للنزعة الصوفية، خصوصا في أعمال الأخيرة، لكنها صوفية تغلب دور التاريخ في مقاربة المطلق، إذ لا يوجد فقط تعالٍ وغياب، هناك هذه العلاقة الشفافة بين المقدس والدنيوي، وهذا التضايف الذي يحافظ على الخيط الذي يبقى حضور العالمين بارزا. يعترف الطاهر وطار (1936 2010) بأنه رجل يعيش التوتر الدائم، يعيش القلق، وإذا كانت فاتحة الكلام في الحديث عن علاقته بالموت، من رحيل الأب إلى الأخوة، إلى فكرة موته نفسه «بقدر كبير من السلاسة»، ومشيه في جنازته، وثلاثية: الموت. أنا. الناس. التي كتبها ذات نص، فإن فيلم «آخر الكلام» الذي صوره المخرج محمد زاوي لا يمكن أخذه على نحو فيلم رثاء، بل هو فيلم حياة، يعزز من ذلك حضور الطفلة التي ستمثل لحظة أمل، وحياة، ومستقبل. لا يستغرق الفيلم كثيرا في حديث الموت، بل يكتفي بإشارات، منها قول الروائي المصري جمال الغيطاني إن الطاهر وطار كان مشغولا بالزمن، وأن الانشغال بفكرة الزمن يؤدي إلى التفكير بالموت والانتقال. وأحاديث من عايشوا العم في أيامه الأخيرة، عندما لم يكن يبدي أي خوف من الموت، بل الرغبة في رحيل سلس، من دون أن يعني هذا الكف عن الحياة، إذ سيقول العم الطاهر إنه على رغم كل ما كان يقال حوله في المستشفى، عن أمراض ألمت به، فإنه لم يتوقف عن الكتابة. برحيل الطاهر وطار في 12 أغسطس (آب) 2010، يتحول فيلم «آخر الكلام» للمخرج محمد زاوي، صاحب «العودة إلى مونلوك»، وثيقة بصرية، على قدر كبير من الأهمية، عن أحد أبرز أعلام الأدب والرواية في الجزائر، وفي العالم العربي. وثيقة تمزج الخاص بالعام، وتكاد تضيء على مرحلة تاريخية كاملة، أمكن للعم طاهر أن يكون من أبرز رواد الأدب العربي. عمي الطاهر، هو أيضا هذا المناضل المحارب بشراسة للفرانكوفونية وأقطابها في الجزائر. والمدافع الأبدي باستماتة عن اللغة العربية. أسس جمعيته: الجاحظية التي اختار لها شعارا: لا إكراه في الرأي، ليخوض بها نضالا شرسا ضد التخلف والإقصاء، فأسس بها تقاليد تتيح للجزائريين والمغاربة أن يتنفسوا هواء الإبداع والجمال، هذا الصرح الثقافي الشامخ أعطاه كل وقته وجهده وماله ليستمر حيا. من خلال نشاطات أصبحت علامات بارزة في المشهد الثقافي منذ سنوات التسعينات. كانت جمعية «الجاحظية» التمثيل الآخر للحضور الثقافي للطاهر وطار وتعبيرا قويا عن انحيازه للعربية رغم أصوله البربرية. ولم يكن الاستناد المرجعي إلى شخصية «الجاحظ» متأسسا على منطق الاعتباط، بل مبررا إلى درجة كبيرة؛ لأنه شكل بالنظر إلى السياق التاريخي الجزائري ذي السمات الخاصة ترهينا مقصودا للصراع القديم بين العرب والشعوبيين. ولأن الجاحظ اقترن بالبيان الذي يميز لغة الضاد، فإن استعادته من لدن الطاهر وطار عبر بأكثر من قرينة عن رغبته في مواجهة «الفرنكفونية» ومشايعيها في السياق الجزائري بشكل خاص. ولم يكن تعبير الرجل في أكثر من حديث بأنه لا يتموقع ضد اللغة الفرنسية بما هي متخيل وثقافة. جمعية ينشط فيها أبرز المثقفين الجزائريين، كانت قبل موته، تسهر على جائزة عريقة هي جائزة مفدي زكريا نسبة لشاعر الثورة المغاربية. تعنى بالإبداع المغاربي. وعلى مجلات التبين والقصيدة والقصة، وعلى مطبوعات ساهمت في إخراج الكثير من المخطوطات إلى النور، وبالتعريف بالكثير من الكتاب والمبدعين. عمي الطاهر كما يحلو له مناداته عاش شامخا، متوهجا، صامدا، يعطي العبرة لكل المثقفين، بأن المناضل الصلب والمحارب الشجاع، يعرف كيف يحمي قناعاته، وكيف يدافع عن حلمه وحلم شعبه. يسرد الدكتور والباحث الأكاديمي الجزائري السعيد بوطاجين بعض نقاشاته مع وطار الذي كان يعاني من قلة الحيلة تجاه المناوئين له، خصوصا في السنوات الأخيرة من عمره. وكيف حاول الفرانكفونيون تلطيخ سمعته، من موقفه اتجاه الفيس، أي الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي رفض الطاهر وطار توقيف المسار الانتخابي والزج بشيوخها ومناضيلها في السجون، وهو المعروف بموقفه اليساري الذي لم يتخل عنه مثلما لم يتخل عن قبعته اليسارية السوداء، كل ذلك لم يمنعه من مناصرة حق الفيس المهضوم بحسبه... يقول بوطاجين: كان وطار يشعر بحصار من قبل عدة جهات، بداية من روايته «الشمعة والدهاليز» التي كانت منعطفا آخر في مسيرته، مرورا «بالولي الطاهر يرفع يديه إلى السماء»، و «الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي». قال لي أشياء كثيرة عن هذا العدول الذي حدث في أعماله الأخيرة وموقفه من الفتنة الجزائرية، ثم كيف انقلب عليه بعض «المنتمين»، خصوصا بعد محاولة التوسط لرأب الصدع العظيم الذي أنتج كل ذلك الدم المراق. أذكر جيدا كيف قال لي مطمئنا: «عمك الطاهر ديمقراطي، لست أفضل من الشعب». كان يقصد التسعينيات وبداية التراجع عن المسار الديمقراطي لعزل الجبهة الإسلامية للإنقاذ. كان شارع رضا حوحو شارعا مخيفا في تلك الفترة المأساوية من تاريخنا، وكانت الجاحظية لا تتوقف عن النشاطات، بحسب إمكاناتها. تحدثنا مرارا عن الجانب الأمني في حيز غامض يضم مقر الجاحظية..كنت أشعر بالرعب في سياقات، لا يمكن ألا تفكر في اعتداء. أما عمّي الطاهر فكان يضحك مازحا: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن». كان دوما الطاهر وطار على قناعة راسخة وثقة عمياء بمسار التاريخ، وهو القائل في روايته (العشق والموت في الزمن الحراشي ص 120): «لن يكون في الجزائر سادات. يستحيل ذلك. هذا الشعب، هو صانع الثوريين، وكل من سيأتي بعد الهواري، لن يستطيع إلا أن يكون على يساره، لكي يضمن الالتحام مع الشعب. ثم إن ظروفنا، تختلف، كل الاختلاف عن ظروف مصر. فلا الإقطاع هنا، هو الإقطاع هناك، ولا الأرستقراطية هي الأرستقراطية، ولا البرجوازية هي البرجوازية، ولا الجيش هو الجيش، بالإضافة إلى الخبرة لدى لطبقة العاملة والمناضلين العماليين، المكتسبة من المعايشة المباشرة للرأسمال في أعلى أشكاله». عمي الطاهر رجل لا يعرف مهادنة السياسيين ولا الأكل في موائدهم، وتعرف عنه الجرأة في مواجهة الحكام والسلاطين.. فهو لا يهادن حتى في قبول الهدايا أو الرحلات، رفض القيام بمناسك الحج يوم بعث له الرئيس بوتفليقة جواز حج رفقة الفنانين وبعض الكتاب.. رفض زيارة الكعبة الشريفة، وقال لحامل خطاب الرئيس يوم أزورها. سأزورها بمالي الخاص وليس بمال الشعب.. وإذا أردتم أن تكرموني فاكرموا جمعية الجاحظية الثقافية. فهي أولى بالمعروف. مات عمي الطاهر وماتت معه مجلات التبين والشعر والبيان.. ليترك لنا حيوات وأبطال رواياته شاهدة على مراحل تشكل المجتمع والبلاد. نم قرير العين، يا عمي الطاهر. فالبلاد التي أحببتها في القلب، والصباح الذي دافعت عنه سيشرق دوما.. نم قرير العين أيها الكاتب العظيم.