مدخل: شكراً للصحفي النبيه محمد باوزير الذي طلب إليّ أن أشارك في الكتابة عن الشعر في المملكة بمناسبة يوم الشعر العربي, لكأنه بذلك ذكّرني بأنّي أحد طيور الشتات العربي الفلسطيني التي بنتْ لها أعشاشاً أخرى في ربوع المملكة, أعشاشاً مؤقتة في متواليات المهاجر وسرديّات الاغتراب وأناشيد المنفى. حين قدمتُ إلى المملكة عام 1392ه وضعتُ في حقيبتي الصغيرة التي اشتريتها بالديْن رائحة أمي ودمعة أبي وحلماً صغيراً كالبرعم يطمح أن أجمع مالاً يكفي لبناء بيتْ لأسرتي المشرّدة في جبال نابلس, فقد ولدتُ في كهف وتربيتُ في خيمة, ولم أطمح طوال دمعة عمري إلى أكثر من ذلك, لكن حقّ أسرتي عليّ دفعني إلى محاولة تحسين أمور معيشتهم حتى لو صرتُ حنظلة أو هدهداً أو جمل المحامل. حين وصلتُ الرياض في ذلك العام لم يكن في جيبي سوى عشرة ريالات مستدانة. تدبرتُ أمري كعادة الطيور في تحصيل أرزاقها وعملت مدرّساً في هجرة الرمحية في صحراء الدهناء قريباً من رماح. عشقتُ مزاج الصحراء وطقوس الرمل وأقمتُ علاقة صوفيّة مع الضب وصديقنا المشترك الجربوع, فأمدّتني الصحراء بغذاء روْحاني من المعرفة الشعورية وفن الحياة حتى استيقظتْ بي طفولة الشعر وراح هدهدي يبحث عن معناه، وكانت مدينة الرياض مثلي تفتش عن ملامحها في مرايا الزمن القادم. أكتفي بهذا القدر من المدخل . تمهيد: في الرياض عملتُ في الصحافة الثقافية في الجزيرة والرياض والمجلة العربية. وتعرّفتُ إلى كوكبة من الشعراء والشاعرات من الأحبة المشمسين الذين كانوا بشارة العقد الثمانيني في الانعطافة الذهبية نحو أدب عربيّ متجاوز وإبداع فني شجاع في أصالته وحداثته ومعاصرته, لكن الليليين استطاعوا تشتيت هذه الأزهار المحبة للشمس والهواء النقي فتناثرت الخيول وساد الجوّ الأدبي غبار كثيف حزين فعدتُ إلى شتاتي الأول وإلى إعادة إنتاج حلم جديد بالشعر وذلك عام 1988م. ومع اعتزازي الخالد بجميع تلك الأحصنة الجريحة إلا أنني كنتُ مؤتلفاً بصيغة أقوى مع شاعرين هما عبدالله الزيد بشفافيّته الجارحة النبيلة وفضاءاته الوجدانية العالية, والثاني محمد جبر الحربي لغربته المسنّنة وإشراقاته الحزينة الجميلة البعيدة عن متناول العامّة. وعلى الرغم من ندرة التعالق الشخصي بيني وبينه غير أنني كنتُ أحبّ ألفته النائية التي تشبه دهشة نمر احترقت غابته أو ذهول نخلةٍ تلاحقها جرّافة. كنتُ أحسّ بانهمامه العميق بالجراح العربية بعامة, وبنزيف الجرح الفلسطيني بخاصة, وبمكابداته الأسيانة تجاه أحقية الإنسان في حلم بعيد. عرفته صادقاً كالصباح في شاعريته ومواقفه الشخصية. ومستقلاً كجبل مفعم بالحياء. القراءة: يبدو واضحاً أن محمد جبر الحربي شرب مبكراً من منابع الشعر الفلسطيني الذي ناضل بالحزن والفن فتنامت حساسيته الشعرية -أي الحربي- في وئام وتعالق انفعالي مع شعر درويش وفواز عيد, يؤكد ذلك غِنى ديوان (حديث الهدهد) بملامح الانتماء الفني والعربي والإنساني إلى عذابات العروبة ومسارات استلاب هويتها، وإلى الاندغام بشرفات الألم في القضية الفلسطينية, وأحسب أن هذا الاندغام يجسّد بقوة أن الحربي شاعر موقف, وأن الشعر عنده جدلية مما هو ثقافي وسياسي ووجدانيّ, فوازن بين الفكري والشعوري منتصراً للرسالة الجمالية للشعر تلك التي تحمل معها سطوراً لامعة من نبض المرحلة واحتراقات الحلم الإنساني. راشد عيسى غير أن الحربي استطاع أن يرسم لشعره مداراً فنياً ذا مذاق خاص، وذلك عندما حافظ على كرامات (الأنا) الخاصة عند الشاعر دون أن يسمح لسلطة الفكر والأرق الخارجي استلاب هويته الوجدانية التي تعدّ الينبوع الأوّل والأصفى لدى الشاعر الأصيل. فنرى في هذا الديوان كيف اشترك الوجدان الخاص عنده مع آفاق الوجدان العام في بثّ شعري جعل الذات شريكة رئيسة مع الهم الجمعي. وبالتوقّف قليلاً عند العنوان (حديث الهدهد) وهو عتبة نصية غنية بالإيحاء والخصب المعرفي الأسطوري بشخصية (الهدهد) التاريخية, نجد أن هذا الطائر البطل في الثقافة الإنسانية فاعلاً متحركاً في النصوص الميثولوجية والدينية والفلسفية والشعرية وتنبئ دلالاته عن فضاءات تناصيّة واسعة ( hyper textuality). ففي القرآن الكريم في سورة النمل كان الهدهد وسيطاً ناجحاً بين النبي سليمان وبلقيس ملكة سبأ, وكذلك في سفْر الملوك. كما نجده بطلاً في كتاب (منطق الطير) لفريد العطار, فكان المرشد الروحي والجغرافي للطيور جميعاً وهو المسمّى بالفارسية ()(simurghسمروغ)، كما نجد في كوميديا أريستو فانيس( الطيور) أن الهدهد لعب دور الرئيس في تحذير الطيور ومناداتها. ولعل محمود درويش أول شاعر معاصر انتبه للظلال الأسطورية الفلسفية لرمزية الهدهد, فكتب قصيدة (الهدهد) في ديوانه (أرى ما أريد) الصادر عام 1990م ضمن اتجاه قصائد الديوان كلها إلى تسريب (رؤيا الإرادة) عند الفلسطينيين وهي قصيدة أغناها درويش بما أفاده من النصوص التاريخية السابقة ولا سيّما كوميديا الطيور, ومنطق الطير. وهو يريد بهذه الإفادة أن يوسّع مساحات الحيرة والألم أمام الشتات, توسيعاً مشفّراً يستعين بقدرة الهدهد على كشف طريق الخلاص ومعرفة الأسرار للنجاة من الفناء والخراب ووضع حدّ لتراجيديا التيه. أما المختلف في هدهد الحربي، فهو أن الشاعر نفسه تقمّص شخصية الهدهد بكل صفاتها من حكمة وصبر واستقلال وخبرة معرفية وحزن مكظوم, وعذاب دنيوي وذلك في قصيدة عودة الهدهد, وهو- أي الشاعر - يقصد عودة المرحلة الطفولية إلى أحاسيسه في سن الرشد والكبر, فالهدهد في تلك القصيدة شخصية تخيلية موازية لشخصية الشاعر, وهو قناع روحاني للذات المتشظية: "هل أتيت تعذّبني أيها الهدهد العذبُ قد كنت طفلاً فكيف على آخر العمر تأتي تهدد بالصحو نومي تبعثر أرجاء مملكتي وتسنُّ النبال بنظرتك الماكرة" فالشاعر كان يتمنى لو أن الهدهد الحكيم (فيه) ظل غافلاً لتتم الغفلة المؤنسة بدلاً من الصحو الذي يحمل معه العذاب, فالرشد ألم, والجهل غبطة, فنحن أمام مظهر من مظاهر الوعي الذي آل إليه الشاعر جراء استيقاظ حكمة الهدهد فيه. ويبدو أن قصيدة عودة الهدهد هي استمرار لدفق تداعيات الزمن الطفولي في القصيدة الأولى (جبرة) هذه القصيدة الجارحة برشاقتها حين استدعى الشاعر طفولة المكان (NOSTALGIA) في حنين وجداني عارم إلى الطفل الذي تركه هناك ولم يكبر حتى الآن، لأن الإحساس بدوام الطفولة دفاع شرْعي نفسي عن زمن العقل وعذاب الكهولة. ففي الطفولة نسيان وحرية وأحلام وبراءة ولا مسؤولية وصدق شعوري، كما أن الحنين للمرحلة الطفولية إنما هو عيش وهمي لذيذ ضد حتمية الموت(للتوسع في هذه المسألة ينظر كتاب: استدعاء الطفولة /سلسلة كتاب الرياض/ رقم 183/2013م). فالشاعر عاد لطفولته ليحتمي بها وليخفف من خسائر واقعه وأحلامه في زمن الرشاد, لأن الطفولة أصدق مرحلة عمرية وأخلد ولا أخال شاعراً إلا استمر يستنطق طفولته ويعيش في ظلال أحلامها ويحنّ إليها على غرار درويش "أحنُّ إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي, وتكبرُ فيّ الطفولةُ يوماً على صدر أمي، وأعشق عمري لأني إذا متُّ أخجل من دمع أمي". كذلك نجد الحربي في مطالع مقاطع متعددة يكرر "أحنُّ إلى". في هذا الديوان مجموعة من القصائد التي أحسب أنها من عيون الشعر المعاصر (كعودة الهدهد) و(جبرة) و(الفارس المطعون بحراب الأهل)، و(البيت), و(كم أحبّ السنين), ذلك لأن الماء الشعري فيها دافق بالشعور ومنسجم مع الموسيقى الشعرية المنسابة كالغدران الخجولة وهي ميزة فنية معروفة في شعر الحربي حين يكتب بإيقاع تأملي شفيف. وأرى أن قصيدة البيت لعبت أيضاً دور بطولة الاغتراب واغتراب الشاعر الفارس المطعون بحراب الأهل وبضرورات الواقع الماديّ الصعب حين لا يملك الشاعر بيتاً يأويه وهو أول مستلزمات العيش, كأن الحربي فارس الرحيل يرى المكان هاربا من قدميه فيلجأ إلى بيته الروحاني في السماء بين الغيوم وفي مجرات الشعر الشاهقة. وإزاء هروب الطفولة مكاناً وزماناً, ومحاسدات الأهل والأقربين, يلجأ الشاعر إلى بيت الذكريات يلوذ به ويستكن: "وما ظل بيت سوى الذكريات والصحيح الصحيح بأني سعيد على غربتي, والصحيح الصحيح بأني على فرح, كيف لا وقد وهب الله لي فرصة للحياةْ" كأننا هنا أمام نوع من لذة الألم, ومن الزهد الدنيوي, ومن ربح الخسائر. إن احتماء الشاعر بالذكريات إنما هو احتماء بالتأملات الهاربة, وبالأحلام حينما تستفيق أحلام اليقظة لتصبح شعراً بحسب غاستون باشلار. الحربي يعيد إنتاج طفولته وأحلامه وذكرياته في محاولة لإقامة توازن روحاني يحميه من كيد الدنيا وضغائن ذوي القربى, لا, بل يصعد به إلى مراقي الألم اللذيذ الذي لا يقدر عليه إلا أولئك العارفون بمباهج الحزن وفلسفة الشقاء السعيد. في هذا الديوان تشكيل فني رحيب من الأبنية الجمالية الشعرية كالإدارة الموسيقية لوثبات الشعور, وتطويع اللغة اليابسة في تجاوز جديد للصياغات الأليفة, وثمة استدعاء خصيب للموروث التاريخي مكاناً وزماناً وشخصاً ونصّاً, بحيث تعايشت أغلب قصائد الديوان مع المرايا الشعرية العربية قديمها وحديثها، ومن هنا أعود للتأكيد أن في شعر الحربي ما يؤكد أصالة هذا الشعر وحداثته ومعاصرته, وما يؤكد أيضاً ذاتانية الشاعر حين تتحول إلى أنا جماعية مشغولة بالهم الإنساني العام. والحربي كما عرفته غير مشغول بالتسويق الإعلامي لشاعريته إنما يكتب الشعر ليمارس حقّه في الحلم وفي الإيماء إلى مواطن القبح والاستلاب بزهدانية ملحوظة وبكبرياء من قمر العفّة والتطهر من المكاسب الدنيوية الزائفة الزائلة. غير أنني في الوقت نفسه لم أستعذب قصيدة (بحرقة الفوسفور) على جلال فكرتها وسخونة أحاسيسها, فقد طغت الانفعالية فيها حتى أحالت بعض العبارات الشعرية إلى ما يشبه الجمل المنبرية المباشرة, والخطابية غير المحمودة في الشعر. يبدو أن عمق الانتماء أحياناً يضاعف سورة غضب الشاعر فيخرجه عن مساره الشعري التأملي إلى مسار المحكي المباشر من صيغ التعبير العادي عن القهر ولا سيّما في قصائد الدفاع السياسي عن الهوية. وبعد, فإنني لست هنا في مقام تقييم شاعرية الحربي, وإنما في مقام قارئ رأى ما رأى في هذا الديوان الرشيق فاستعذب حنين الحربي إلى طفولته وتناصّه الذكي مع مجدولة من الموروثات التاريخية, واستمتع بالمعمار الإيقاعي وتماهى مع الرؤى التي تشتبك مع سيرورة الحياة وأخلاقها ومع صيرورة الحلم الممنوع, واشتبك مع خريطة الحزن الفلسطيني, ومع أنين العروبة, فكان شعر الحربي هنا صافياً يحمل بالدرجة الأولى رسالة جمالية غنية بالقيم الفكرية والفنية في شبه كبير بشخصية الهدهد الحكيم الحزين كاتم الأسرار, الرشيق بتاجه وألوانه, المكتفي بعزلته الكثيرة, المتسامي عن خضرة العالم بشجرة واحدة، المغني الشجيّ تحت المطر الناعم, الرائي بقلبه والسامع بعينيه يستطيع أن ينقر فضة القمر تماماً كما ينقر جذع شجرة ليشرب نسغها.