يظهر ان الحداثة الشعرية العربية، على الرغم من الالتباسات الكثيرة المحيطة بمفهومها ومصطلحاتها وحدودها، انطلقت مكانياً، على امتداد القرن الفائت، العشرين، وبخاصة من اواسطه، من مراكز او عواصم عربية، لا تعدو ثلاثاً هي: بغداد وبيروت والقاهرة. وبقيت الاطراف، بالنسبة للمركز الثلاثي المذكور، سواء كانت في الجزيرة والخليج، او في المغرب العربي، او في افريقيا، على تماس ضعيف ومحدود مع قيم الحداثة الشعرية العربية ونظرياتها النقدية، ونصوصها الابداعية.. ففي حين برزت اسماء شعرية كبيرة في العراق من امثال بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي ونازك الملائكة وبلند حيدري، وفي مصر اسماء كل من صلاح عبدالصبور واحمد عبدالمعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر وبعد ذلك أمل دنقل، وفي بيروت اسماء يوسف الخال وأدونيس وخليل حاوي وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا (في قصيدة النثر)،،، وفي حين استقطبت مجلة شعر ومجلة الآداب النصوص والاسماء الشعرية الحداثية، فضلاً عن النظريات المنقولة من الغرب أو المتأثرة به،، فإننا نجد صعوبة في ذكر اسم شاعر حداثي بارز، من خارج اطار هذه المركزيات الثلاث.. واذا كانت الاطراف تطل على المركز، او تساهم فيه احياناً، فمن خلال الاندراج فيه، نشاطاً وحواراً وفعالية، في نشر النصوص، في المجالات او في دور النشر، وفي عقد المؤتمرات الادبية،،، وعلى هذا، لم تكن ليبيا على سبيل المثال، ولا السودان، ممن خاض الحداثة الشعرية العربية، وقدم لها الأسماء والنصوص، اللهم إلا اذا اعتبرنا محمد الفيتوري من المؤسسين، وهو ليس كذلك، والامر عينه يقال عن الجزيرة والمغرب العربي.. ذلك لا يمنع بالطبع، من الاشارة لاسماء شعرية مهمة خارج اطار مركزيات الحداثة الشعرية الثلاث، لكنها، في حال وجودها، كانت مضطرة للانجذاب للمركز، فالفيتوري عرف في مجلة الآداب في بيروت، وجبرا في مجلة شعر، والشعراء البعيدون او المبعدون عن بلادهم في اوروبا او الولاياتالمتحدة الاميركية (مثل سركون بولص)، اطلوا على العربية من نوافذ المدن الثلاث. لم يشذ الشعر السوداني عن هذه القاعدة. والاهتمام الابداعي والنقدي به لم يكن مركزياً بل كان جانبياً.. كانت اصوات شعراء من امثال الفيتوري (الذي وصل بقوة من خلال النكهة الافريقية الحارة لقصيدته)، وصلاح احمد ابراهيم (صاحب غابة الابنوس) وجيلي عبدالرحمن ومحمد عبدالحي، تصل من خلال مجلة الآداب اللبنانية بشكل خاص. والاهتمامات النقدية بهذا الشعر، بقيت محدودة، لا تتجاوز اسماء عدد قليل من النقاد من امثال عبده بدوي ومحمد النويهي وعبدالمجيد عابدين واحسان عباس. اما احمد ابوسعد، فغلب على عمله حول الشعر السوداني، سمة العرض (الجزئي) للنماذج الشعرية، والتجميع، اكثر مما سيطر النقد والتحليل. ونكاد نقول انه، حتى اليوم، وعلى الرغم من صدور كتاب «مختارات من الشعر السوداني» اخيراً بتاريخ 1/6/2005، من اعداد مجذوب عيدروس، ورسوم احمد ابراهيم عبدالعال، في اطار سلسلة «كتاب في جريدة» الصادر عن اليونيسكو، فإن هذا الشعر برموزه واتجاهاته وابعاده، مازال يعيش في الظل.. والبارزون فيه، اما غابوا عن هذه المختارات، كمحمد الفيتوري مثلاً، او لم يأخذوا حقهم من الاهتمام مثل صلاح احمد ابراهيم وجيلي عبدالرحمن ومحمد عبدالحي.. بخاصة محمد عبدالحي، ومحي الدين فارس. المقدمة التي كتبها مجذوب عيدروس للمختارات مبتسرة وغير وافية، وهي لا تعدو ان تكون مسرداً سريعاً لاسماء عدد من الشعراء السودانيين من مطلع القرن العشرين حتى نهاياته، اقدم اسم لمحمد احمد المحجوب (المولود العام 1908م)، والاحدث لبابكر الوسيلة سرالختم من شعراء التسعينات.. ثمة اسم يرد لشاعر عن نهاية القرن التاسع عشر هو عبدالله محمد عمر البنا المولود في أم درمان العام 1890، وعدد من شعراء السبعينات من القرن الماضي مثل عالم عباس محمد نور ومحمد المكي ابراهيم. الشعراء المختارون خمسة وعشرون. بعضهم أورده المصنف من دون اية سيرة حياتية وادبية مثل جيلي عبدالرحمن (وهو من اهم الشعراء السودانيين)، والبعض الآخر لم يرد تاريخ ولادته.. وسير الشعراء المثبتة في نهايات مختاراتهم الشعرية (وهي لا تتجاوز قصيدتين او ثلاث قصائد على الاكثر لكل شاعر)، مختصرة جداً، ولا تقدم اية رؤية نقدية، ولو اولية، للشاعر ليس ثمة من ذكر لمجموعة «نار المجاذيب» لمحمد احمد محجوب، وهي مجموعة قصائد ذات نكهة صوفية، ونار هادئة لانخطاف المجاذيب.. كما كان في الامكان افراد فصل مميز للنكهة الصوفية في الشعر السوداني، حيث تسود الطرق الصوفية، وهي السمة الابرز في هذا الشعر، بل لعلها ابرز سمات شعر الفيتوري بالذات في ديوانه «اغنية لدرويش متجول»، وشعر محمد عبدالحي.. وان قصيدة الفيتوري «في حضرة من اهوى» هي من الشهرة والجمال بحيث لا يجوز اهمالها: «في حضرة من أهوى عبثت بي الاشواقْ حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساقْ وزحمت براياتي وطبولي الآفاقْ عشقي يغني عشقي وفنائي استغراقْ مملوكك لكني سلطان العشاق». الشعر السوداني، على العموم، خارج اطار النكهة الصوفية التي تميزه، والتي تنفح من طبيعة المكان، والطبيعة التاريخية للمعتقدات الدينية، حيث يتمزج طقس الدين بطقوس السحر الافريقي، هو شعر تقليدي يتوق الى الحداثة، ويتلمس فيه الدارس، خيوطاً من خصوصية المكان والبيئة. وكما يقول مجذوب عيدروس، فإننا حين نجوس في الشعر السوداني، فكأننا «نجوس داخل غابة متشابكة الاغصان» لكن، من الصعب، بل من المستبعد جداً، العثور على خيوط نوبية قديمة في طينة هذا الشعر.. على الاقل، في الشعر المكتوب بالعربية الفصحى. ولعلنا واقعون على خيوط وبصمات محلية في الشعر الشعبي، لكن ما وصل الينا من مختارات هو بالفصحى. ثمة اشارة ذات قيمة اوردها محمد النورين ضيف الله صاحب كتاب «الطبقات»، عن شعراء عرفوا في عصر مملكة سنار 1505م - 1821م، من بينهم الشيخ اسماعيل صاحب الربابة،، «الذي له نغمة يفيق منها المجنون ويذهل لها العاقل»، وهو شاعر اتخذه شاعر حديث كمحمد عبدالحي رمزاً اقترب به من أورفيوس الاغريقي.. لكن المختار من شعر محمد عبدالحي، لا يظهر صورة هذا الشاعر الاصيلة الخاصة والعميقة.. فهو شاعر عانس قليلاً (1945 - 1989)، ولكنه كتب عميقا وجميلاً، سواء في ديوان المدهش «العودة الى سنار» او في مجموعة «حديقة الورد الأخيرة» او «السمندل يغني». وقد غذى موهبته المحلية الاصيلة بالثقافة الانجليزية، من جهة تضلعه بالشعر الانجليزي وتدريسه الجامعي له. يقول في النشيد الاول من قصيدة «العودة الى سنار»، بعنوان البحر: «بالأمس مر اول الطيور فوقنا ودار دورتين قبل ان يغيب/ كانت كل مرآةٍ على المياه فردوساً من الفسفور..». ويصور في هذه القصيدة العام البدئي للحياة في البحر، حيث تظهر حيوية اللغة والصورة والايقاع في كامل أبهتها: «امس رأينا اول الهدايا/ ضفائر الاشنة والليفَ على الأجاجِ لن بقايا الشجر الميت، والحياة في ابتدائها الصامت بين علق البحار في العالم الاجوف حيث حشرات البحر في مرحها الاعمى تدب في كهوف الليف والطحلب لا تعي انزلاق الليل والنهار..» ثمة طقوسية افريقية سودانية في شعر محمد عبدالحي، حيث تخرج ارواح الجدود من ضفة النهر، وتتقمص اجساد الاطفال، وحيث، على ايقاع الطبول، يستقبل الاهل ابنهم العائد ويهدونه «مسبحة من أسنان الموتى - ابريقاً جمجمةً - مصلاة من جلد الجاموس - رمزاً يلمع بين النخلة والابنوس - لغة تطلع مثل الرمح... كامرأة عارية تنام - على سرير البرق في انتظار ثورها الابيض الذي يزور في الظلام - وكان أفق الوجه والقناع شكلاً واحداً.. على حدود النور والظلمة بين الصحو والمنام». هذا الشعر الطقوسي السوداني لمحمد عبدالحي، لا نعثر على ما يشبه او يسير في اتجاهه، حاملاً نكهة السحر والاسرار والطقوس الافريقية، واللغة او العبارة المحلية، عند الكثيرين من الشعراء المختارين في الكتاب. وكان علينا ان نقطع كتاب الشعر السوداني بكاملة، لكي نصل الى محمد عبدالحي، ونتوقف عنده ملياً، بعد وقفات عند جيلي عبدالرحمن ومحي الدين فارس وصلاح احمد ابراهيم وكجراي والتجاني يوسف بشير الذي سجل لنا صلاح عبدالصبور تأثره به لجهة المنحى الصوفي، في قصيدته «الصوفي المعذب».