هذه رواية مختلفة. فمنذ البدء أقنع مؤلفها الناشر بأن تصدر الرواية أولا على حلقات توزع على شبكة الإنترنت، وقد فعلها الناشر، وصدرت الرواية في تسع حلقات، وكان المشتركون يتلقون حلقتين كل أسبوع مقابل يورو واحد عن كل حلقة. وبعد اكتمال مغامرة النشر الإلكترونية هذه، صدرت الرواية كاملة في كتاب ورقي. لقد أراد الكاتب إحياء تقاليد الروايات المتسلسلة التي كانت تصدر في الصحف منذ ما قبل أكثر من مئتي عام، تقاليد بدأها آباء فن الرواية الكبار، من أمثال ديكينز وبلزاك وفلوبير وغيرهم من الأدباء المؤسسين الذين نشروا رواياتهم بهذه الطريقة. وقد توطأت اليوم التكنولوجيا وطريقتنا في استهلاك الأدب لتعيد لنا تلك الأعراف المنسية. ولا ندري إلى أي حد نجحت فكرة بيع رواية «أوسكار والنساء» في إحياء تقليد الرواية المتسلسلة في العالم الهيسبانو أمريكي. «أوسكار والنساء» للكاتب البيروي سنتياغو رونكاغليولو، رواية ساخرة ممتعة تدور أحداثها في عالم صناعة المسلسلات التلفزيونية الأمريكية اللاتينية، ربما كان هذا هو الحافز لتوزيع الرواية إلكترونيا على حلقات قبل نشرها ورقيا. «فسيناريوهات المسلسلات الإذاعية ثم التلفزيونية على حد تعبير رونكاغليولو هي شكسبير أمريكا اللاتينية، والنوع الأدبي الوحيد الذي اخترعناه في أمريكا اللاتينية، ولم نستورده من أوروبا، وروينا من خلاله تاريخنا خلال القرن الأخير». تتصدر الكتاب ثلاث جمل. الأولى لأرسطو: «الفن محاكاة للحياة». والثانية لأوسكار وايلد: «الحياة تحاكي الفن». أما الجملة الثالثة، الوحيدة الحقيقية كما يقول المؤلف، فهي لوودي آلن: «الحياة تحاكي التلفزيون الرخيص». بطل القصة «أوسكار كوليفاتو»، كاتب سيناريو مسلسلات تلفزيونية يجد راحة في عالم المسلسلات الخيالي الذي يختلقة أكثر مما هو عليه في الحياة الحقيقية. يرتدي ملابس سوداء صارمة على الدوام، ينفر من ضوء الشمس ومن شوارع مدينة ميامي التي يعيش فيها، يمقت الحيوانات والأطفال، ويشمئز من كل شيء ومن الجميع، اللهم إلا نفسه بالذات. إنه موسوس ومهووس إلى أقصى الحدود، يكره الجيران ويحول دون دخول أحد إلى بيته، ويحاول عزل نفسه والابتعاد عن العالم كيلا يشوش أي شيء روتين حياته الرتيب ككاتب مسلسلات تلفزيونية أفعوانية. لقد مر أوسكار بمرحلة مجد ونجاح قصيرة، فهو من أبدع مسلسلين تلفزيونيين حققا له شهرة واسعة، وإيرادات عالية جدا للمنتج. وعليه الآن أن يكتب رواية تلفزيونية تعيد ترميم شهرته المهددة بالضياع. ولكن قدرته الإبداعية تبدو مشلولة ومتجمدة، ذلك أن ناتاليا، خطيبته منذ ست سنوات، تهجره بصورة مفاجئة. وبذهابها يفقد الاتصال بمصدر إلهامه الأقرب إلى الواقع. لقد وقع أوسكار في الجمود الابداعي، لم يعد قادرا على الكتابة، فهو بحاجة إلى الحب من أجل أن يكتب. غير أن كتاب السيناريو التلفزيوني لا يسمح لهم بترف الجمود الإبداعي. عليهم أن يكتبوا أربعين صفحة في اليوم لتستمر آلية الإنتاج بالدوران. وعلى الرغم من أن أوسكار كوليفاتو شخص غريب الأطوار ولا نفع فيه حسب رأي كثيرين، إلا أنه الدجاجة التي تبيض ذهبا في نظر منتج الروايات التلفزيونية ماركو أوريليو الذي يرى أن أوسكار هو «عملاق الميلودراما الأمريكية اللاتينية» و«مشعوذ الحب»، ويسارع هذا المنتج الهمام للبحث بنفسه عن حل للمشكلة، ويكون حل المنتج بتعاقده مع امرأة اسمها نيريدا لتمنح أوسكار الإلهام العاطفي والإبداعي. ولكن هذا الحل يتسبب في طفرة هائلة في حياة أسكار. فهذه المرأة لن تكون الوحيدة التي تحدث الانقلاب في حياة أوسكار الذي يحاول التصالح مع ناتاليا، وأثناء محاولاته تظهر في المشهد بياتريث، جارته المتفجرة والمتنورة بكتب المساعدةِ الذاتية، وتعترف له بأنها معجبة بسيناريوهات مسلسلاته، وتقول له إنه يتقن «بيع الوهم للناس»؛ ويتوالى ظهور نساء أخريات: غريس لامورنا، المصارعة والملاكمة في نادٍ رياضي وبطلة مسلسله التلفزيوني الجديد. وميليسا، عالمة الحيوان التي تعمل في حوض لتربية التماسيح وأم ابنه الذي أنجبه منها قبل ثلاثة عشر عاما. وفابيولا توثارد، ممثلة في مرحلة الانحدار وزوجة المنتج. فضلا عن نيريدا التي تعاقد معها ماركو أوريليو من أجل إخراج أوسكار من جموده الإبداعي وشلله الذهني. تتضمن الرواية، على طريقتها، أفكارا حول الرجولة. فأوسكار يجسد انحدار الرجولة، باعتبار أن الذكر كائن آخذ بالانقراض، ويشعر أنه مهدد جدا من النساء الجدد. أوسكار هو استعارة مجازية لرجل لم يعد يدري كيف يمكنه التصرف مع امرأة القرن الحادي والعشرين. ولهذا يتحول إلى كائن غير قادر على فعل أي شيء سوى الكتابة وحسب. أحداث الرواية تدور في ميامي. أجل، فهناك تصنع المسلسلات التلفزيونية لتبثها بعد ذلك محطات التلفزة في كافة أنحاء أمريكا اللاتينية. المؤلف الذي كان يرغب في كتابة رواية بهذه المواصفات منذ أن كان يعمل قبل سنوات في ميامي ككاتب سيناريو يتحدث إلى وكالة أنباء (إفي) الإسبانية بافتتان عن بعض المسلسلات ذات المستوى الرفيع التي أنتجتها أمريكا اللاتينية. وهو يرى أن مدينة ميامي «مناسبة جدا من أجل أجواء عمل كوميدي، وتتيح لي اللعب كثيرا لأني أعرف أن أوسكار يكره ميامي. تصور أنه شخص لا يتقن قيادة السيارة، وهذا أمر أشبه بالانتحار في ميامي». إنها رواية للضحك، رواية ذات شحنة عالية جدا من السخرية والتهكم والمحاكاة الهزلية في تقديم قصة أوسكار كوليفاتو المهووس وغير الاجتماعي. فعلى الرغم من صعوبة المشاكل التي يواجهها بطل الرواية والوضع المأساوي البائس الذي يعيشه، إلا أن الرواية أبعد ما يكون عن المآسي، إنها قصة كوميديا هذيانية، بطلها غير قادر على تمييز ما هو الواقع وما هو الخيال. ولا الفصل بين عمله الإبداعي وحياته الشخصية، وهو أمر يحدث لكثير من الكتاب كما يبدو. تعتمد الرواية على ما يعرف ب«كوميديا الموقف»، وهو ما يطوره رونكاغليولو بصورة متصاعدة على أحسن وجه. فالرواية مكتوبة في مسارين اثنين، أحدهما يتحدث عن حياة أوسكار، الشخصية المثيرة للشفقة، وانتقاله من فشل إلى آخر ككاتب سيناريو بعد النجاح الباهر الذي كان قد حققه في بداياته. غير أن صديقه المنتج ماركو أوريليو يمنحه فرصة جديدة: إبداع سيناريو جديد لرواية تلفزيونية. المسار الآخر في الرواية هو تطور كتابة السيناريو نفسه الذي يعكف عليه أوسكار وسيرورة إبداع الرواية التلفزيونية، وفي مناسبات عديدة يحدث تداخل بين الواقع والمتخيل. السيناريو هو القصة الكلاسيكية للمسلسل الأمريكي اللاتيني النمطي عن الفتاة الفقيرة إنما الشريفة التي تأتي إلى بيت الشاب الثري والنبيل، ويكون الشاب في هذه الحالة بالذات متزوجا من كايتانا، وهي امرأة خبيثة جدا. وعلى تقاطع مساري القصة هذا، يمضي أوسكار في محاولة إنقاذ حياته الشخصية، بعد أن هجرته امرأة حياته. مؤلف الرواية البيروي سنتياغو رونكاغليولو (ليما 1975) حصل عام 2006 على جائزة ألفاغوارا الإسبانية عن روايته «أبريل أحمر»، فكان أصغر الكتاب الحاصلين على هذه الجائزة سنا. وقد نقلت روايته إلى السينما، وكذلك روايته الأولى «حياء». عاش رونكاغليولو وعمل في المكسيك والبيرو وإسبانيا. وباعت كتبه أكثر من مئة وخمسين ألف نسخة، وترجم إلى عشرين لغة أجنبية. يرى بعض النقاد أن رونكاغليولو يعيد اختراع الواقعية السحرية بوسائل وأساليب حديثة.