محاكم الاستئناف السعودية تقوم بأدوار مهمة في مكافحة الفساد، وليس أدل على ذلك من قيامها بإعادة طلب تقدمت به المحكمة الإدارية في المنطقة الشرقية، وقد كان موضوعه إيقاف عقوبة السجن عن اثنين من أصل ستة مدانين في جرائم فساد تراوحت بين الرشوة والإخلال بواجبات الوظيفة العامة، وجاء في تبرير «إدارية الشرقية» للاستئناف، أن المتهم الأول يعول زوجة وطفلين، والثاني لم تسجل عليه سوابق جنائية ويحتاج لجراحة بحكم معاناته من انزلاق غضروفي، وزادت أن زوجته مراجعة دائمة للعيادات النفسية وهو مسؤول عنها وعن أولادهما السبعة، والمفاجأة أن لها محاولة مشابهة مع متهم ثالث في نفس القضية ولأسباب لا تختلف كثيرا إلا أنها لم تنجح، وأعتقد أن استئناف الحكم في قضايا من هذا النوع، وتحديدا في حالة العقوبات المقيدة لحرية الأشخاص كالحبس، يكشف نظرة المجتمع المتسامحة في معظمها مع قضايا الفساد الصغيرة، إن جاز التعبير، وهؤلاء يرون أن الغرامة كافية جدا وتؤدي الغرض. أسطورة روبن هود تعيد إنتاج نفسها ولكن ليس في نوتنغهام الإنجليزية وإنما في جدة السعودية، فقد قامت محكمة الاستئناف وللمرة الثانية بإصدار حكم شجاع يفيد بطلان حجة استحكام، وهذه الحجة سميت صكا وتعود ملكيتها لورثة رجل أعمال معروف، وفيها ما يشير لامتلاكهم مساحات واسعة في جنوبجدة، واستحقاقهم لتعويضات نقدية تصل في مجموعها لمئة مليار ريال كأجرة لاستخدامها طوال ستين سنة، أو هكذا خرج حكم القاضي في المحكمة العامة بجدة قبل تدخل الاستئناف، والمواقع المشمولة في الحجة استخدمت في إقامة مشاريع حكومية ومرافق وشوارع، وطريقة استخراجها في الأساس لم تكن نظامية بالكامل، وكانت لاحقة والشاهد أن رجل الأعمال، يرحمه الله، لم يطالب بالتعويض قبل وفاته، ولو كان في يده مستمسك يثبت حقه، إن وجد، لما تأخر. القضاء في المملكة لا يجامل أحدا ولا يتجمل لأحد، و قد زادت فاعليته بعد إقرار المقام السامي الكريم لنظام المرافعات الشرعية الجديد منذ سنتين تقريبا، ومحكمة الاستئناف بشكلها واختصاصتها تعتبر حجر زاوية وصمام أمان لهذا النظام، والمعنى أن مكافحة الفساد المتعمد أو العارض، تحتاج لمؤسسات قوية تتعامل بحزم وخشونة مع الفاسدين، وكل من يتعاون أو يتعاطف معهم من ساعة ضبطهم وحتى تقديمهم للعدالة. الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد المسماة اختصارا «نزاهة» عين عليها مسؤول بمرتبة وزير وهو محمد بن عبدالله الشريف، والرجل يشبه في أمنياته مارتن لوثر كينغ صاحب الحلم باختلاف التفاصيل، وسبق للشريف وان كتب في الشأن العام لصحيفة «الاقتصادية» السعودية، وآخر مقالاته حملت تاريخ 12 يوليو 2010، وشغل وظائف مهمة في ديوان المراقبة العامة ختمها بوظيفة مدير عام الديوان، و«نزاهة» جهة متابعة وإشراف وطلب معلومات واستقبال بلاغات ومن ثم تحويلها لجهات الاختصاص، وبالتالي فإنها لا تحضر أو تضبط أو تحقق بل تمارس أعمالا مكتبية من طرف واحد، ومن الظلم أن نتوقع منها فوق ما تستطيع، وهيئة مكافحة الفساد لا تستحق إلا الاحترام والتقدير وتعمل ما تستطيع في حدود إمكاناتها، وأتصور أن جهود مواجهة الفساد والمفسدين لن توفق ما لم تشارك فيها وبصورة مباشرة جهات تنفيذية مهمة من بينها وزارة العدل والمباحث الإدارية وديوان المراقبة العامة وديوان المظالم، وبما لا يتعارض والاستراتيجية الوطنية المنظمة لعمل الهيئة وعلاقتها التكاملية بالمؤسسات المذكورة، وأضيف إليها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي رأيي، مكافحة الفساد لن تحقق نتائج نوعية أو مرضية بدونها، فهذه المؤسسة أثبتت قدرتها المتفوقة في الرقابة على فساد الأخلاق وبدون تفرقة أو تأثر بمركز الشخص أو مكانته الاجتماعية، والشواهد متوفرة لمن يبحث عنها. [email protected]