نشرت منظمة الشفافية الدولية، وهي منظمة مستقلة مقرها برلين تقريرها السنوي المسمى (مؤشر مدركات الفساد) عن العام (2024) مؤخراً، وأشار التقرير في مقدمته إلى أن مستويات الفساد في العالم بشكل مثير للقلق، خاصة مع تعثر الجهود التي تبذل للحد من سطوته وكشف التقرير عن مستويات خطيرة للفساد في مختلف أنحاء العالم، ومن ذلك أن ثلثي البلدان التي يشملها التقرير وعددها (180) دولة لم يبلغ فيها معدل النزاهة (50 ٪) من المقياس المتعارف عليه وهو (0) درجة للأكثر فساداً و(100) درجة للأكثر نزاهة، بل إن معدل متوسط درجاتها متوقف عند ( 43) درجة منذ عدة سنوات، ويعلق رئيس منظمة الشفافية (فرانسوا فاليريان) على التقرير بالقول: (إن الفساد يشكل تهديداً عالمياً متطوراً لا تقتصر آثاره على تقويض التنمية فحسب، بل يعد سبباً رئيسياً في تراجع الديمقراطية وعدم الاستقرار، وانتهاك حقوق الإنسان في العالم) ويسلط التقرير الضوء على مليارات الدولارات من أموال المناخ المعرضة لخطر السرقة أو إساءة الاستخدام، وذلك بسبب أن أغلب البلدان المعرضة بشدة لتغير المناخ يقل فيها معدل النزاهة كثيراً مثل جنوب السودان (8) درجات والصومال (9) درجات وفنزويلا (10) درجات، ومن ثم تتعرض الأموال المخصصة لمكافحة أزمة المناخ فيها للنهب. وتركز منظمة الشفافية في مجال عملها واستخلاص تقاريرها ومؤشراتها على عناصر الفساد الرئيسية، مثل الرشوة وصرف الأموال في غير مصارفها النظامية واستغلال المناصب لتحقيق المكاسب، وعدم قدرة الحكومات على احتواء الفساد في القطاع العام، وعدم وجود أنظمة لحماية المبلغين عن الفساد. ويبرز التقرير ملامح مهمة يحسن الإشارة إليها هنا، ومنها: 1- حققت الدنمارك المرتبة الأولى في النزاهة للسنة السابعة على التوالي، وذلك بحصولها على المركز الأول من بين (180) دولة وبمعدل (90) من (109) من النزاهة، تلتها كل من فنلندا (88) درجة وسنغافورة (84) درجة ونيوزيلندا(83) درجة. 2- يعيش ما يقرب من (6.5) مليارات نسمة في بلدان تقل درجات النزاهة فيها عن (50) درجة، ويعادل ساكنوها (85 ٪) من سكان العالم، ويعني ذلك أن معظم سكان العالم يعيشون في بلدان يعشش فيها الفساد. 3- يثبت التقرير أن أكثر البلدان فساداً هي البلدان التي تكثر فيها الصراعات السياسية والعسكرية على السلطة، وأن هذا العامل - أي الصراع على السلطة - سبب رئيس للفساد. 4- سجلت بلدان لم تعرف بتسلط الفساد فيها من قبل أدنى درجات حصلت عليها وهو ما يسترعي النظر، مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية، وترتيبها (65) ، وفرنسا (67) والنمسا (67) وألمانيا (75)، في حين يفترض أن تكون هذه الدول في مقدمة دول العالم في النزاهة. 5- على مدى السنوات الخمس الماضية تمكنت بعض البلدان من تحسين نتائجها على مؤشر مدركات الفساد بشكل ملحوظ، ومن هذه البلدان ساحل العاج (45) وكوسوفو ( 44) والكويت (46) والمالديف (38). 6- وفي المقابل وعلى مدى السنوات الخمس الأخيرة شهدت بعض البلدان تراجعاً في مستواها في النزاهة مثل بلجيكا (69) وفرنسا (67) والنمسا (67). ومن متابعة مستمرة لتقرير منظمة الشفافية وهو أكثر التقارير التي تصدر مصداقية وحيادية أستطيع القول إجمالاً: إن العالم يتجه إلى التراجع في مسألة مكافحة الفساد، وإذا استمر الوضع على هذا النحو فإن الدول الفقيرة ستزداد فقراً ويتنامى فيها الفساد، وستكون القروض والمساعدات التي تقدمها الدول الغنية والمنظمات المقرضة عرضة للنهب والتلاعب، وبما أن منظمة الشفافية منظمة مستقلة ومحايدة فإنها لا تملك السلطة الملزمة لإجبار الدول على تبني ما تتضمنه تقاريرها من توصيات ونصائح، ولذلك وكما أوضحت في التعقيب على تقارير سابقة فإنه لا بد من تبني الوسيلة الوحيدة والمناسبة وهي التنسيق من قبلها مع الدول والمنظمات المانحة والمقرضة، بما فيها منظمة الأممالمتحدة ليكون هناك ربط واضح بين تقديم القروض والإعانات وبين مدى تعاون وجدية الدول الممنوحة في مجال مكافحة الفساد وتنفيذ توصيات منظمة الشفافية الدولية المتعلقة بذلك. والله من وراء القصد. * (رئيس نزاهة الأسبق) محمد بن عبدالله الشريف