الذين يدرسون الاستشراق بعمق، وبمتابعة مباشرة لإسهاماته الثقافية، لا يستعجلون التعميم في الحكم عليه كله، على أنه كان طرفا مباشرا في صناعة الكراهية. فالأمر، هنا، يقتضي قدرا من التفصيل. فقد طال التنقيب عن المستشرقين المنصفين، وهم موجودون، ولا يسوغ نسيان إسهاماتهم في توعية بني قومهم عن حقيقة الثقافة الإسلامية، وبعدها عما ألصقه بها إخوة لهم من المستشرقين، من كون هذه الثقافة تمثل الخطر الأخضر الجديد، بعد تراجع الشيوعية عن التأثير، ودعوتهم لهم إلى أن يخلعوا عنهم لباس التعصب، الذي يحجب النظرة الموضوعية لثقافة تنتشر بشكل ملحوظ، (آنا ماري شيمل 1922 2005م، وزيجريد هونكه، وفريتس شتيبات 1923م، ويوسف فان أس 1934م، ولزلي ماكلوكلن، وجون إسبوزيتو، وفريد هاليداي، وديفيد كنج، وإدوارد كينيدي، وغيرهم كثير من المتأخرين، وأن مسألة الخطر الإسلامي لا تتعدى كونها وهما من الأوهام، التي يروج لها بعض المتنفذين السياسيين من المستشرقين وغيرهم. ذلك في ضوء التوجه إلى التوكيد على وجود مستشرقين مغرضين، كان لهم أثر واضح وملموس في صناعة الكراهية. هذه النظرة تقتضي تصنيف المستشرقين إلى فئات، من حيث الزمان، أولا، ثم من حيث المدارس الاستشراقية، ومدى قرب هذه الفئات والمدارس من الإنصاف، كالمدرسة الألمانية، وبعدها عنه، كالمدرسة الفرنسية، أخذا في الحسبان أن المستشرق نفسه يظهر تارة منصفا، ويظهر تارة أخرى، في تقويمنا له، غير منصف (مونتمجمري وات نموذجا). واقع الحال أن هناك فئة معتبرة من المستشرقين كانت لهم جهود واضحة في صناعة الوئام بين الثقافات، وكانوا وسائط لتعريف الغرب بالثقافة الإسلامية تحديدا، من خلال الدراسات والبحوث والترجمة والنقل، وحفظ التراث العربي الإسلامي، وفهرسته وتصنيفه، وترميم المعطوب منه. ولا ينبغي التغاضي عن هذه الجهود الواضحة، كما أنه لا ينبغي الالتفاف على هذه الجهود، والزعم بأنها لم تكن صادرة عن قصد نبيل، والزعم بأن ما قام به المستشرقون من جهود موضوعية كان لخدمة أغراضهم الأخرى. وإن وجد هذا الهاجس فقد تمخض عنه نفع للتراث المخدوم. * وزير الشؤون الاجتماعية الأسبق