الحرية مبدأ إنساني أصيل ويقر به أغلب الفلاسفة والعلماء والمفكرين.. ولكنهم يختلفون في تعريف الحرية وحدودها والمتمتعين بها. ويهمنا هنا في مقالنا اليوم «المتمتعين بالحرية»، فيكون سؤالنا: هل يتمتع الطفل بالحرية كما يتمتع بها الإنسان الراشد ؟ وما حدودها ؟ دعونا نوضح مبدئيا أن ليس هناك حرية بدون سلطة أو إلزام قانوني أو ما يسميه الفلاسفة بالضرورة. فلولا الضرورة (الإلزامات) لما كان للحرية معنى. يقول الفيلسوف الوجودي كارل ياسبرز (كما ينقل جلال الدين سعد في معجمه): «إن الحرية لا توجد منعزلة، إذ كلما وجدت الحرية اقترنت بالقسر، ولكن إذا تغلب القسر زالت الحرية». والقسر هنا هو القانون العمومي أو القوانين الخصوصية. فهناك قوانين يشترعها الناس لكي يبقوا على «اجتماعهم» وتفاعلهم، ولو ترك لكل امرئ أن يفعل ما يشاء بالكلية لانهار البناء الاجتماعي. ولكن: ما حدود هذا القانون ؟ إلى أي مدى يحق للقانون أن يقف عائقا أمام حريتي ؟ الإجابة على هذا السؤال معقدة ومتنوعة وسنكتفي بجواب جون ستيورات مل في كتابه (عن الحرية) حيث يقترح مبدأ الضرر أو العدوان وينص على «إن كل امرئ حر بشرط ألا يتعدى على حرية الآخرين».. فبرأيه فإنك كإنسان راشد وعاقل يحق لك أن تفعل ما تريد ولكن حذار أن تطال حريتك حريات غيرك من الناس.. فلست وحدك في المجتمع. وهذا المبدأ أيضا صار مشهورا بين فلاسفة التنوير الفرنسيين وقد تم تبنيه ضمن إعلان حقوق الإنسان والمواطن إبان الثورة الفرنسية. دعونا نعد مرة أخرى لهذا المبدأ (أنت كإنسان عاقل راشد حر ولكن حريتك «محدودة» بحريات غيرك من الناس). نلاحظ هنا أن المبدأ يشترط أن يكون الإنسان عاقلا راشدا لكي يتوفر على حريته.. فهل الطفل الذي يتفق أغلب المربين على كونه غير راشد (وإن قال بعضهم بأنه عاقل) يستحق هذه الحرية ؟ هناك آراء تعامل الطفل بخصوص الحرية كما لو كان كائنا طائشا أو متهورا.. ويمكن أن تشكل الحرية خطرا عليه. وبصرف النظر عن صفة الطيش فإنني أتفق أن الطفل قد يلحق الضرر بنفسه لو ترك حرا في كل شيء.. فقد مثلا يترك المدرسة أو يأكل طعاما غير صحي أو يدخن.. إلخ. هذا الفريق نزع الحرية كلية عن الطفل وهنا المشكلة. برأيي أن الطفل حر وأنه كأي إنسان راشد له الحق في فعل ما يشاء ولكن في حدود المبدأ. فما هو المبدأ ؟ سنقوم بعمل تغيير بسيط لمبدأ جون سيتورات مل (مبدأ الضرر) ليكون (مبدأ الضرر الذاتي). فإذا كان المبدأ الأول يضع حدودا لحماية المرء من الآخرين فإن المبدأ الثاني يضع حدودا لحماية «الطفل» من نفسه. وتكون صياغة المبدأ كالتالي (الطفل حر في أن يفعل ما يشاء ما لم يلحق الضرر بنفسه) ولن يلحق الضرر بغيره طبعا لأنه بدوره خاضع للمبدأ الأول. وعليه سيكون من الظلم أن يكون الدور التوجيهي للوالدين أو المعلمين ممتدا وشاملا لكل قرارات الطفل. من الضروري تعليم الطفل كيف يكون حرا وكيف يكون مسؤولا عن حريته وكيف يستخدم حريته بشكل صحيح لا ينتهي به إلى الإضرار بنفسه أو بغيره. وتبعا لهذا المبدأ فإن الطفل حر في اختيار أصدقائه وكتبه والمدرسة التي يرغب والمواد التي يحب ويجيد والملابس التي يعشق والأكل الذي يشتهي.. ويكون دور الوالدين قسريا في حالة الحد من حرية الطفل تبعا للمبدأ المشار إليه، وتوجيهيا غير إلزامي في ما عداه. فيحق للأب مثلا أن ينصح ابنه ويشاوره في ملابسه التي يريد ولكن دون أن يجبره على نوع معين من الملابس. هكذا تنمو بذور الحرية والوعي في وجدان الطفل وينشأ من كل ذلك شخصية سوية وواثقة من نفسها ومن قدراتها.