تثار بين الحين والآخر قضية الردة، وما إذا كانت الردة جريمة حدية تستدعي التطبيق على المرتد فورًا، وتباينت آراء الفقهاء واختلفت وجهات نظر العلماء في هذا الأمر، ففي الوقت الذي يرى فيه بعضهم أن الردة جريمة في حق المرتد نفسه، وجريمة في حق المجتمع وجريمة في حق الدين، وأنه لا بد من إقامة الحد على المرتد؛ لأنه لا يستحق الحياة؛ ولأنه يمثل خطرًا على المجتمع المسلم، إذ إن الكافر قد يظهر الدخول في الإسلام، ويدعي بعد فترة أن هذا الدين لم يلبي احتياجاته، ويعلن انسلاخه منه وخروجه عليه؛ مما قد يمثل عائقًا أمام بعض المؤلفة قلوبهم أو الذين يرجى إسلامهم؛ لذلك يطالب هؤلاء بإقامة حد الردة على كل من يثبت رجوعه عن الإسلام إلى الكفر لوضع حد لهذه الفتنة. في الجانب المقابل يرى آخرون أن عقوبة الردة ليست حدًا، وإنما هي تعزير ينبغي ترك تقديره للحاكم أو القاضي، مستدلين بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يطبق حدًا واحدًا على كل من رجع عن الإسلام، وأنه أعرض عن معاقبة بعض من عادوا للكفر، وكذلك بالحوار الذي جرى بين أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وصحابته عندما قامت حروب الردة، ويرى هؤلاء أن المرتد الذي ينبغي قتله هو الذي يفعل ذلك حربًا ضد المسلمين؛ ورغبة في التخذيل عن الدين الإسلامي. أما من ارتد لتغير قناعاته؛ فهذا لا يقتل ويستتاب، ولو كانت الاستتابة مدى الحياة. و“الرسالة” كما عودتكم وقفت على أبعاد الموضوع، ووضعت مجموعة من الأسئلة على طاولات بعض العلماء وأساتذة الشريعة، وأخذت ما أفادوا به وها هي تطرحه بين يدي القراء الكرام في ثنايا التحقيق التالي: لا خيار للمرتد بداية يقول مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور سليمان بن عبدالله أبي الخيل: “وقع إجماع الأمة على أن المرتد لا خيار له فيما ارتد إليه، سواء ارتد إلى دين يقر عليه ابتداءً أم إلى غير ذلك، وأنه إذا حصل ذلك قتل حدًا لردته، وهذا الإجماع في شأن الرجل إذا توفرت شروط تطبيق الحد التي ذكرها العلماء”. يقول ابن قدامة -رحمه الله- “وأجمع أهل العلم على وجوب قتال المرتدين، وروي ذلك عن أبي بكر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد -رضي الله عنهم- وغيرهم فلم ينكر فكان إجماعًا. وهذا الحكم المجمع عليه دل عليه القرآن فيما يتعلق بحكم الآخرة. أما السنة فهي صريحة في هذا الحكم، لا يمكن أن يدخل عليها المشبه بتأويل، فقد ورد في الحديث الصحيح قوله في حديث عكرمة -رضي الله عنه-: “من بدل دينه فاقتلوه”. وقال عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-: “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة”. ومضى أبو الخيل قائلًا: “إذا ظهر هذا الحكم بالدليل فإن الواجب التسليم بموجبه، وعدم معارضة ذلك؛ لأنه الاعتراض على حكم الله أمر عظيم؛ ولكي تتضح معالم الحرية في ضوء هذا الحكم الثابت، فإن المتأمل فيه يجد أنه غير معارض للحرية الحقة الموافقة للنصوص؛ لأنه الدخول في الإسلام السابق لهذه الصورة لم يجر فيه قسر ولا إكراه، بل إن هذا الخيار لو وقع إكراهًا لم يعتد به، فالحرية المبنية على التعقل والتبصر ووضوح الهدف وسلامة الطريق الموصل إلى الدين كلها شواهد على الحرية السابقة، والتأمل في الخيار اللاحق الذي يريد به الارتداد والخروج عن دين الإسلام هو الآخر لا يحصل عن قناعة واختيار وحرية تامة. الزجر والردع ويضيف أبو الخيل: “اختيار الردة بناء على فقد صورة الحرية، إما بضغوطات شخصية، أو لمكيدة دفع إليها قصد سيء أو لغير ذلك من العوامل. إذا عرفنا مكانة هذا الدين، وأنه دين شامل كامل ينتظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بغيره ممن حوله، فهو نظام عام، فالخروج عليه خروج على النظام العام، فلا بد من الزجر والردع حتى لا يقع الخلل؛ ولذا جاء حد الردة ضمن كلية من الكليات الخمس التي وردت المحافظة عليها في كل الملل، وهي كلية الدين، وهي قدر مشترك بين الديانات، فالحكم الثابت فيها يتفق مع هذه الكلية العظيمة، ويعزز هذا أنه لو تصور حرية بلا قيد في هذا الجانب لكانت الأمور فوضى، سواء في حال الشخص الذي ينتقل أم في احترام الأديان والمشاعر، وإذا كان الخروج على المجتمع، ونبذ قواعده ومشاقة أبنائه وخيانة الأوطان وغير ذلك من السلوكيات والتصرفات التي تحرمها القوانين السائدة في كل بلد، وتعتبرها مفاسد متراكمة، وفوضى خلاقة، فكذلك هذا الشأن؛ لأنه لكل حرية خطوط حمراء لا يجوز تجاوزها في الشأن البشري، فكيف بالتشريع الإلهي، وعقوبة الإعدام موجودة في كثير من القوانين المعاصرة سواء لمهربي المخدرات أو للجرائم العظيمة العامة؛ لما لهذه العقوبة من أثر في الحد من الجريمة والتخفيف منها، وحماية المجتمع من آثارها، ولم يعترض أحد بأن مثل هذه العقوبة مصادمة للحرية، فكذلك في شأن عقوبة المرتد. فالحرية لا تزال في الإطار الذي ينظم المصالح العامة والخاصة، ويقيد الحرية الخاصة؛ لئلا تتعارض مع الصالح العام، وأنها بهذا التصور محققة لهذا التوازن المطلوب، والشأن الموجود في كل الملل، وهذا ظاهر ولله الحمد. الحكم القاسي من جانبه يرى أستاذ الدراسات العليا الشرعية بجامعة أم القرى الدكتور ناصر بن عبدالله الميمان أن الحرية جزء أصيل لدى كل إنسان، ويقول: “الحرية متأصلة في كل فرد حيث خلق الله تعالى الإنسان حرًا؛ لذا فهو يحافظ عليها بكل ما يملك من قدرات، ويتفرع من الحرية الأصلية: الحرية الدينية؛ فالإنسان له الحرية في اختيار الدين الذي يريده، وهو بعد ذلك وحده يتحمل نتيجة هذا الاختيار، والله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان هذه الحرية، ومن ثم لم يجبره على اختيار معتقد معين لكي يكون الجزاء حسب هذا الاختيار: “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” وإنما أرشده إلى اعتناق الدين الصحيح -الإسلام- من خلال بعث الرسل وإنزال الكتب، وهم دعوا الناس إلى ذلك الدين الحق المبين”. وأضاف الميمان قائلًا: “الإسلام وضع قواعد وأسس الحرية الدينية مع تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة برئاسة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي حينه كانت البشرية في مختلف بقاع الأرض تلاقي أنواع الإكراه والاضطهاد على يد حكام ظالمين للدخول في دين معين، والرسول -صلى الله عليه وسلم- طبق هذه القواعد والأسس وضرب أروع الأمثلة في ذلك؛ ومنه تعلمت الأمة هذا المبدأ، لذلك عاش غير المسلمين في الدولة الإسلامية طوال القرون بأمان وطمأنينة يمارسون عباداتهم، وبيع اليهود وكنائس النصارى المنتشرة في بلاد المسلمين أصدق دليل على هذا. فلم يسجل التاريخ أي إكراه أو ضغط من الدولة الإسلامية نحو رعاياها غير المسلمين؛ لترك دينهم والدخول في دين الإسلام”. ومضى الميمان قائلًا: “شرعت عقوبة الردة كإجراء وقائي؛ كيلا يتخذ الدين مهزلة وألعوبة يدخل فيه الإنسان متى شاء ويخرج منه متى شاء، واستخفافا بالله ورسوله والمجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه، والردة خروج عن الإسلام الذي هو النظام الاجتماعي للمجتمع الإسلامي، فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى القلق والاضطراب للمجتمع سواء في تفكيره أو في سلوكه، لذلك شدد الإسلام في عقوبة الردة استئصالًا للجرم من المجتمع، وحماية للنظام الاجتماعي من ناحية، ومنعًا للجريمة وزجرًا عنها من ناحية أخرى. فعقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف الناس عن الجريمة، ومهما كانت العوامل الدافعة إلى الجريمة؛ فإن عقوبة القتل تولّد غالبًا في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة ما يكبت العوامل الدافعة إليها، ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال”. هجوم مغرض أما الغرض الأساسي وراء هجوم الغرب على قضية حد الردة، فهو إباحة الردة وإتاحتها في ظل حماية قانونية محلية وعالمية. كذلك كل الحجج والمسوغات التي استند إليها الغرب في القيام بحملته ضد حكم الردة في الإسلام يمكن أن تستخدم ويُستند إليها في بقية أحكام الشريعة في الجزاءات المتعلقة بجرائم شرب الخمر، والسرقة، والزنى، والفواحش وغيرها من الكبائر التي تجرّمها وتحرّمها الشريعة، وهذا مكمن خطر مستقبلي، ومدعاة لتكرار الحملة الدولية على شريعة الإسلام في وقائع وأحكام أخرى بذرائع مشابهة مثل: “الحرية الشخصية”، و“قسوة العقوبة”، و”ضرورة الاحتكام إلى قوانين مدنية لا دينية”. واستطرد بالقول: “هناك حملة قادمة ضد الدساتير في العالم الإسلامي؛ لحذف كل ما يتعلق بالشريعة منها برغم علمانيتها، وعلى هذا فإن هذه الدساتير التي وضعت، والتي ستوضع أو تعدل، ستظل قنابل موقوتة، تتفجر كلما طالبت جماهير الأمة بحقها وواجبها في الاحتكام إلى شريعة الإسلام الذي تدين به. والحقيقة أن هذا الحكم القاسي الشديد للمرتد هو فرعٌ من حرية التدين؛ لأن الإسلام لا يكره أحدًا على اعتناقه، إلا إذا حصل عنده القناعة التامة، والرضا الكامل، فيعلن إسلامه، فإن ارتد -فيما بعد- فهو إما أنه دخل الإسلام نفاقًا، ولمصلحة خسيسة، وبقي الكفر في قلبه، فهذا يتلاعب في العقيدة والمقدسات، ويستحق القتل لهذه الجريمة، ولخروجه على النظام العام، وخيانته للأمة التي ترعاه، والدولة التي تحميه. وسيلة كيدية من جانبه يرى الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الدكتور عبدالمجيد النجار أن ما جاء في تعاليم الإسلام من منع للردّة، ومن حكم مغلّظ في شأنها إنّما يندرج ضمن قيد من قيود حرّية المعتقد، وهو توقّف هذه الحرّية عند الحدّ الذي تنقلب فيه حرّية الاعتقاد تصرّفًا كيديًا، ويقول: “الرّدّة عن المعتقد الإسلامي بعد اعتناقه هي من الناحية النظرية مظنّة تصرّف كيدي؛ إذ من أقوى الأساليب في الكيد للمعتقد الإسلامي والتخذيل عنه أن يعتنق الإنسان هذا المعتقد؛ ثمّ بعد فترة يتركه ليعود إلى معتقد آخر؛ إذ دلالة ذلك أنّ هذا المعتقد الذي وقع تبنّيه جُرّب بالتطبيق الفعلي؛ فتبيّن أنّه لا تستقيم به الحياة، ويكون الأمر أفتك في الكيد، وأبلغ في إحداث الأثر السلبي حينما تكون الردّة جماعية، إذ من أمضى ما يُقاوم به دين من الأديان أن تعتنقه جموع كثيرة من الناس، ثمّ ترتدّ عنه بصفة جماعية، وتلك طريقة معهودة في الكيد السياسي تستعمل لتخذيل المنظّمات والأحزاب والحكومات، وهي تحدث نفس الأثر أو أشدّ في الكيد الاعتقادي”. ويضيف النجار قائلًا: “على الصعيد الواقعي فإنّ الرّدّة عن الإسلام استعملت وسيلة كيدية بالغة التأثير، فقد جاء في تفسير الرازي أنّ طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين، فكانوا يظهرون الإيمان تارة، والكفر أخرى،، وهؤلاء إنّما كانت ردّتهم ردّة كيدية للتشكيك في الإسلام وصرف الناس عنه. وفي هذا الباب تندرج الرّدّة الكبرى التي حدثت في عهد أبي بكر، فقد كانت ردّة ذات بعد تآمري على الإسلام، ولم تكن مجرّد اختيار حرّ للمعتقد، ومن أجل ذلك قوبلت بما قوبلت به من الحزم في المقاومة. من أهمّ مبرّرات العقوبة المفروضة على الردة هذا البعد الكيدي، فالردّة في نطاق النظام الإسلامي شديدة الإغراء بالكيد؛ إذ هي حينما تكون كيدية؛ فإنّها تكون بالغة التأثير على المجتمع الإسلامي، وذلك باعتبار أنّ المجتمع الإسلامي أُقيمت كلّ الحياة فيه على أساس ديني، فالكيد بالردّة يمكن أن يفضي إلى هدم المجتمع بأكمله، وذلك نظير ما يُسمّى في قوانين الدولة الحديثة بجريمة الخيانة العظمى التي تغلّظ فيها العقوبات بما هي تهديد حقيقي لنظام المجتمع بأكمله. وأمّا المجتمعات التي لا تُقام فيها الحياة على أساس ديني، وإنّما الدين فيها شأن فردي، فإنّ الردّة فيها لا تغري بالكيد، إذ تأثيرها يكاد لا يتعدّى حدود المرتدّ في حياته الفردية الخاصّة. وربما يكون من الشواهد على ذلك أنّ الردة إذا كانت مستترة في ضمير المرتدّ دون أن تظهر في أقواله وأفعاله؛ فإنها لا ينطبق عليها العقاب حتى وإن عُلمت حقيقتها علم اليقين”. الحجج العقلية ويحدد النجار ضمانات الحرية الدينية ويقول: “إذا كان من المهمّ أن يقع التشريع للحرية الدينية باعتبار ذلك تأسيسًا لهذه الحرّية حتى تكون مكتسبة صفة الشرعية الدينية، فإنّه من المهمّ أيضًا أن تحاط بضمانات تضمن لها السيرورة الفعلية في المجتمع، وتحول دون إهدارها واقعًا بأيّ سبب من الأسباب، وأيّ تأويل مهما يكن لها من صفة شرعية نظرية، فالمبادئ النظرية مهما تكن عليه من حقّ في ذاتها فإنها كثيرًا ما يصيبها الانتكاس في الواقع حينما لا تتوفّر لها ضمانات التطبيق الفعلي”. وختم بالقول: “تسمح حرّية المعتقد بالنقد ولا تسمح بما يجرح المشاعر؛ لأنّ النقد فيه بيان لحقيقة المعتقدات في ذاتها قصد إظهار ما فيها من حقّ أو باطل؛ ليتّخذ السامع منها موقفًا؛ بناءً على ما يظهر له من ذلك الحقّ والباطل، فساحة التدافع في هذه الحال هي الحجّة العقلية الواردة على مادّة موضوعية مطروحة لنظر الجميع، وأمّا التحقير والشتيمة واللمز وما في حكمها، فإنّها ليست واردة على المعتقد كمادّة موضوعية تتدافعها العقول بالحجّة، وإنّما هي واردة على مشاعر المعتقدين للإيذاء والنكاية”. تصادم القيم ويقول رئيس المجمع العلمي العالي للدراسات والأبحاث وعضو مجمع الفقه الإسلامي بجدة الدكتور محمد صالح الفرفور الحسني: “مفهوم الحرية من المنظور الإسلامي لا يتحقق إلا من خلال الحقوق والواجبات، باعتبارهما وجهان لعملة واحدة كما أسلفنا القول في مفهوم الحرية؛ لأنه الحقوق من دون أن تُقيد بالواجبات تجعل الفرد غير مرتبط بالآخرين يعرف حقوقه ولا يعرف حقوق الآخرين، ويصبح مقصرًا في أداء واجباته، وحرص الإسلام على تطبيق الحرية ضمن هذه الحدود في مختلف شؤون الحياة. إن إنسانية الإنسان هي رهن حريته؛ إذ لا يمكن أن تتحقق إنسانيته بدون حريته يمارس حياته آمنًا، وإن الحرية في الإسلام لا تعني التخلي عن المبادئ والانفلات من الآداب وارتكاب المنكرات واستباحة محارم الله؛ إذ الحرية التي تبيح هذه المحظورات ليست بحرية بل هي تصور خاطئ للحرية، وقد صحح الإسلام هذا التصور الخاطئ، وقرر حرية الناس على أساس كل حق يقابله واجب”. ويضيف الفرفور: “المشكلة تكمن في كون جميع الفلاسفة قد اتفقوا على أن الرغبة في (اللاقيد) حيال اختيارات الإنسان بصدد سلوكه الظاهر ونشاطاته الفكرية والباطنية، شعور أصيل في كيانه، ومطلب أساس في حياته، فإنهم رأوا أن هذا الشعور يصطدم بعدة حقائق ثابتة لا مفرّ من الاعتراف بها، ولا جدوى من إنكارها، ثم إنهم لم يهتدوا إلى سبيل سليم لإقامة توازن متكافئ بين هذا الشعور الأصيل وتلك الحقائق. فهو يصطدم بالضرورة أو الحتمية سواء ما كان منها داخليًا يشعر به الإنسان في أعماق كيانه، وما كان منها خارجيًا يتمثل في قوانين الطبيعة وأحكامها الثابتة الصارمة، وهو يتصادم ثانيًا مع القيم على اختلاف الناس في فهم جوهرها وموازينها، وهو يتصادم ثالثًا مع أنظمة الحكم وسياسة الدولة، أيًَّا كان شكل هذا الحكم، وأيًَّا كان المذهب السياسي المتبع، إذ هي لا يمكن أن تنهض إلا على نوع من الضبط والتقييد. فهذه المقابلات المتعارضة، هي لبُّ المشكلة التي وقف عندها الفلاسفة قديمًا وحديثًا. ثم لم يجدوا سبيلًا إلى حلها أو اجتيازها؛ وما تدور بحوثهم ومسائلهم عند الحديث عن الحرية إلا على محور هذه المشكلة، وما تفرّقوا وتشتتوا بين الفرضيات والآراء المتنافرة في شأنها؛ إلا أملًا في العثور على حل يكمن هنا أو هناك. غير أن المشكلة الحقيقية التي تنعكس على الواقع الفردي والاجتماعي، هي مشكلة البحث في جواب علمي سليم عن السؤال التالي: كيف أُوفق بين حريتي الذاتية من جهة، وكل من الضرورات القائمة والقيم المرعية والانضباط بأنظمة الدولة ومقتضيات القانون من جهة أخرى”؟ نسبية الحرية ويستطرد الفرفور بالقول: “الإنسان يتمتع بحرية نسبية محدودة، ثم إن هذه النسبية تتسع وتضيق حسب الأحوال والظروف، وعندئذٍ يصبح التوفيق بين الحرية والضرورة ساريًا على كل الناس في جميع أحوالهم وتقلباتهم. وللنفس دائمًا منطقها الذي تنقاد وتثور بموجبه، كما أن للعقل منطقه الذي يتجه ويسير عليه، فلا جرم كان من المتوقع أن يهيج بكثير من الناس هائج النفس والهوى، عندما يرون أن حريتهم غدت ضحية لضرورات المذاهب المتطاحنة والقيم المتصارعة. والقرآن الكريم يرشدنا إلى أن معرفة الإنسان ذاته معرفة دقيقة، هي المنطلق إلى سائر العلوم والمعارف المختلفة، فإذا أصغينا إلى كتاب الله تعالى علمنا أن الإنسان مخلوق من نوع فريد، أبدعه الله -عز وجل-، وأنه مهما اتجه وتقلّب يدور في قبضته وتحت سلطانه، وهو يحتاج في كل لحظة إلى عناية الله به ورعايته له. فوجوده يتحدد في كل لحظة بخلق جديد، وأن كل ما يتمتع به من ملكات وصفات أمانة استودعت عنده إلى حين، وهو منفعل بهذه الصفات وليس فاعلًا لها، فهو قوي، ولكنه لا يدري كيف انسكبت القوة في كيانه، ولا يدري أي سبيل لاستبقائها عندما تبدأ بالتراجع والذبول”.