على حبل نهار مشمس ذهبنا إلى عيادتها في مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة أنا وزوجتي.. وصلنا في وقتنا رغم زحمة السير والأبواق الصباحية التي تخدش خد هذا الصباح.. كان التوتر يثقب زجاج الروح.. كان موعدنا التاسعة صباحاً.. وقفت أمام موظفة الاستقبال سيدة سعودية في منتصف العمر استقبلتني بابتسامة أليفة.. أنهت إجراءات زوجتي لمقابلة الطبيبة في أقل من عشر دقائق.. أرشدتني لمكان جلوسي ومكان جلوس زوجتي.. جلسنا في قاعة انتظار مريحة رحبة غير مكتظة.. مكثنا هناك 14 دقيقة وهو زمن قياسي في قاموس معايير الانتظار في علم إدارة المستشفيات. ظهر رقم زوجتي على الشاشة وسمعت الممرضة تستدعي زوجتي بصوت خفيض.. كان التعب يملأ عين زوجتي وكان الألم ينتشر في جسدها كرؤوس مسننة وعلى جبينها شال غمام.. زوجتي لم تنم منذ البارحة. عاشت ليلة عنيفة من الشك والشوك.. دلفنا للعيادة لتستقبلنا طبيبة سعودية ببسمة ملونة كالزهور..كانت تتقدم نحو زوجتي من خلف مكتبها كنسمة ربيع حنون.. تتأهب حواسها كفرقة إنقاذ.. كانت تتمتع بلباقة مطرزة كفستان زفاف.. بسطت كفها مستقبلة كسحابة تظلل الموجوعين.. كانت بسمتها ترشح عطر مودة.. قدمت نفسها بأدب جم أنا الدكتورة (سهير عبدالله الطيار).. استمعت لشكاوي زوجتي عن أوجاع مفاصلها والصداع الكهربائي الذي يخترق مسام رقبتها.. كانت تنصت وتسكب ماءها الدافئ على كل شكوى بصوت متعاطف كترياق مضاد للخوف أخذت التاريخ المرضي بدقة كانت تسأل برفق وتتحدث بصفاء.. تحس أن أسئلتها مصابيح إنارة للوصول للتشخيص السليم.. ثم بدأت تفحص زوجتي بيدين من جينات حنان سحيق.. كانت تفحص زوجتي كأنها تبحث عن شوكة ضالة..ثم أخذت تحدث زوجتي عن مرضها وتاريخه وأسبابه وطريقة العلاج.. أعجبني تصرفها عندما بدأت تباشر وصف العلاج ووصلت إلى مفترق حرج فاستعانت باستشاري آخر في التخصص أعرف شخصياً أنه أصغر منها سناً.. لم تنفرد بقرارها.. كانت تعامل زوجتي كأنها أقرب الناس إليها.. وودعتنا كأنها تودع أهل بيتها.. كانت تحمل شمسا في جبينها ورحمة في عينيها.. كنت أجلس في مقعدي أتامل كل ذلك الإحساس النبيل والشعور العارم بالاهتمام بالإنسان ورعايته.. أستطيع أن أصف لكم شعوري.. كنت أشعر كمن يمتلئ بالبرق..ماذا يعني أن يشقك البرق بضوئه من الداخل.. كنت أشاهد بإعجاب طبيبة مؤهلة من بلادي همها الأكبر مصلحة المريض والعناية به وتخفيف معاناته.. قد يبدو هذا الكلام ساذجاً للبعض..!! لكن لا يفقه في هذه الثوابت الأساسية في منهج العمل الطبي السريري الأكاديمي إلا من عرفها على مر السنين.. وافتقدها!! نعم لقد افتقدنا فن التطبيب وأصبح من يحظى بمقابلة طبيبة كالدكتورة (سهير عبدالله الطيار) كمن يحظى بزخة مطر في أحلك أيام القيظ!!.. أقول ورزقي على الله على قول حبيبنا (ثامر الميمان) منحه الله العافية إن ما شاهدته في مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة هذا الصباح كان «فن تطبيب» على أرقى مستوى من سيدة طيبة من بلادي سيدة طبيبة محترفة واعية صبورة متفهمة ومهتمة حتى بأسخف شكاوي المرضى وأبسطها تتحلى بالصبر وتستفيض في الشرح والتوعية والتفسير والتبسيط وإلمام المريض بعلته وأبعادها وتشجعه وتدعمه فعلياً ومعنوياً.. أكتب هذا القول لأؤكد أن ماحدث لي اليوم وما حدث لزوجة صديقي الدكتور عبدالرحمن النويصر والذي أشرت إليه في مقالي (موظف استقبال بدرجه مدير عام) شيء اسمه القيادة الاحترافية المؤهلة فالتخصصي يشرف على إدارته الدكتور «طارق عبدالله لنجاوي» رجل عالي الكفاءة والتأهيل نمى نفسه ونمى من حوله ينتمي إلى مجلس إدارة رفيع المستوى.. بينما «التايتنك» والتي حدثت فيها مأساة زوجة الدكتور عبدالرحمن النويصر ينتمي من يشرف على إدارتها إلى عصر أهل الكهف.. شخص المسؤولون عنه أناس نيام، ولما تأكد أنهم نيام، شعر بالاطمئنان ثم نام!!