لم يكن تقدير عمره بتلك الصعوبة لديه، فخمس سنوات قبل أو خمس سنوات بعد لن تضيف تضفي لعمره مرحلة جديدة، ولكنه أنقص عمره خمس سنوات حينما سأله ذاك الشاب الذي جاء وجلس بجانبه في المقهى، قال له :- = عمري خمسة وستون عاما ...ً قال ذلك وهو يدرك أنه يكذب عليه ، ولكن هناك احتفال في داخله حين نطق بعمره وكأنه أبعد الموت عنه خمس سنوات . جلس الشاب بجانبه بعدما صافحه، تفحص العجوز ملامحه، لعله يعرفه، ولكن كبر سنه قد أحدث ثقوباً في ذاكرته، أو ربما أنحشر وجهه في إحدى تلك الثقوب وسقط من ذاكرته، لم يأخذه التفكير فيه كثيراً ليحدد معرفته به حين قال له الشاب :- = أنت لا تعرفني ولا أنا أعرفك، ولكني أحب أن أتحدث مع كبار السن ... = وبماذا تود أن تتحدث معي ... = أي موضوع تتناوله أنت سأكون مصغياً لك ... = ولكن ليس لدي موضوع الآن، لقد فاجأتني بذلك ... = لا يهم يا جدي، فيكفي أن تتحدث عن نفسك حين كنت في عمري .. لا يعرف لماذا لم يرتح له، رغم أنه شاب ذو خلق ووسيم، ولكنه لو تحدث عن شبابه، سيستمع له الشاب ، ومن ثم يغادره، ويبقى وحيداً مع أوجاع ذاكرته ... = اسمع يا بني ... عفواً يا حفيدي – غمز له بطرف عينيه ليجد ابتسامته ينضح بها وجهه – أحكِ لي عن شبابك ... = ولماذا لا تحكي أنت عن شبابك ... = يا بني – نظرت إليه وقلت له سأقول لك دائماً يا بني – لا أريد أن أسترجع أوجاعي، وأنت في مقتبل العمر، وما فاتك أمس ستلحق به غداً، لكني أنا قد بلغت من العمر عتياً، وما فاتني من شبابي لن يكون لي أبداً ... = جدي أو كما تحب أن أناديك أبي، ما فاتك قد لا تعوضه في حياتك، فلماذا لا تجعلني أعوض ما فاتك في شبابي ؟ = وهل تعتقد أن ما فاتني في شبابي يحق لك أن تعوضه في شبابك، قد لا يناسبك أو قد تهزأ به ... = لا يا أبي ... ما تريد أن تعوضه وأنت في هذا العمر يعني لك أنه شيء جميل فاتك عمله في شبابك، وقد يغدق علي بالشيء الكثير ... = لن أحدثك عن نقصي الذي أشعر به الآن، ولكني سأدلي لك بنصيحة، تعوضك كل ما فات في شبابي ... = وما هي نصيحتك ؟ = اطرق الباب ولا تنتظر أو تتوقع من يرد عليك ... = كيف ذلك ؟ = بني، حين تطرق الباب ولا تنتظر أو تتوقع من يرد عليك، هذا يعني أنك حين طرقت الباب كنت على حق، أما إن كنت متردداً في طرق الباب خوفاً من هول المفاجأة، فهذا يدل على أنك ضعيف، غير واثق من نفسك أو في الأمر الذي بسببه طرقت الباب ... أتفهم ما أقول ؟ = نعم أبي، لقد فهمت، إن لم يكن لي حاجة في طرق الباب، فلماذا أطرقه ...أليس هذا ما تقصد ؟ = أحسنت يا بني، الآن حين تتقيد بتلك النصيحة، لن يفوتك شيء من شبابك ... قام من مكانه، قبل يده وجبينه وقال له := = شكراً يا أبي على نصيحة كانت من حكمة جدي ... وغادرني ... رفع يده للنادل وطلب قهوته التي يعرفها جيداً من كثرة ما يكون هنا، من بعيد فهم النادل طلبه دون أن يتقدم ليأخذه من شفتيه ... أسند ظهره على المقعد الجلدي الذي يتميز به هذا المقهى الذي اعتاد الجلوس فيه كثيراً وتساءلت يا ترى ... كم هي الأبواب التي لم أطرقها حين كنت شاباً ؟!!!... على رائحة القهوة التي وضعها النادل على المنضدة الصغيرة أمامه، رجع بذاكرته نحو الوراء كثيراً، ليجد حياة أخرى عاشها، لو كانت في ذلك العصر لأصبح في هذا المقهى شخصاً منفوراً منه ... قال في سره "هذا الزمن ليس لي، وإن كنت قد اقتحمته بجلوسي في هذا المقهى، ولكن ما حيلتي، فكل من أعرفه قد سبقني إلى الموت، ولم تبق سوى زوجتي، تشاركني الوحدة والذكريات، ولا أحد منهم قال لي لو كان في مكاني الآن ماذا سيفعل ؟ " . لم يشرب قهوته، ترجل من مكانه، ذهب وحيداً يذرع الطرقات بلا هدف، ونهاية هذه الأرصفة هو باب داره، يعبر الأرصفة بلا هدى، حدث نفسه "لم يكن شبابي هنا، تركته في القرية، بعدما كبر أبنائي وأجبروني على مغادرتها لإكمال تعليمهم في المدينة، هذه المدينة التي أخاف منها حتى الآن، أتحسس يدي كل صباح حتى أدرك أنني حي، هذه المدينة أخذت كل أصدقائي الذين قدموا من القرية أو الذين تعرفت عليهم هنا دائماً إذا ضاقت به جدران الدار يخرج للأرصفة، يحادث أصدقاءه الذين ماتوا، وحين يصل إلى الباب بيته، يترحم عليهم ويدخل من دفتي الباب منكسرا. عاد إلى الدار، وجد زوجته تنتظره، سألته عن سبب تأخره، فلم يجبها، كان يداري دمعة أوشكت النزول حتى لا تراها، جلسا معاً، لفهما الصمت كما هو في الليالي الماضية لم يكن معها، ففكره تارة يرجعه لحديث الشاب، وتارة أخرى يرجعه لشبابه الذي ضاع بين تعب وكدح، صدرت منه آهة، لفتت سمع زوجته، سألته مرة أخرى عما يشغل باله، حاول أن يهرب من سؤالها، ووجد نفسه يبوح لها بكل شيء، عن ذلك الشاب الذي لم يحدثه عن شبابه، وتطرق في حديثه عن شبابه الذي ضاع خلف السنين، لزمت هي الصمت وكأنها رجعت هي الأخرى لشبابها الذي لم يكن أفضل من شبابه . فجأة قالت له :- = لماذا لا نسافر، نغير الأماكن لعلنا نعوض شيئاَ من شبابنا ؟ وكعادته حين يكون مهموماً لا يرد على أسئلتها، تركها وغادرها إلى غرفة نومه، حاول أن ينام ولم يستطع، تقلب ذات اليمين وذات الشمال، علق نظره على نافذة غرفة نومه، ووقعت نظراته على سقف غرفته، ولم يأته النوم، نادى زوجته بصوت عال دخلت من الباب :- = ما بك ؟ = لا شيء ... ولكن لماذا لا نسافر معاَ ؟ = لقد سألتك نفس السؤال ولم تجب .. = دعينا نسافر، سأذهب غداً إن شاء الله لمكتب الحجز وأحجز تذكرتين .. = وإلى أين تود السفر ؟ = حتى الآن لا أعلم، ولكن سأسال من يكون في مكتب الحجز عن مدينة لا تنفر من كبرنا.. = توكل على الله، ومن الغد سأعمل على ترتيب حقيبة سفرنا ... في الصباح كان جالساً أمام مكتب موظف الحجز .. قال له رداً على سؤاله :- = لماذا لا تسافر إلى القاهرة، أنصحك بذلك ... = ساسمع نصيحتك بدأ موظف الحجز في المكتب الفخم يحدثه عن القاهرة وعن الأهرامات وعن جمالها وأدرك من لهجته أنه ابن تلك المدينة . عاد إلى الدار، وجد زوجته قد انتهت للتو من ترتيب حقيبة سفرهما الوحيدة، وحين رأته سألته :- = ماذا قال لك موظف الحجز ؟ لم يجب عن سؤالها وإنما قال لها والابتسامة تفتر من شفتيه :- = سنسافر غداً صباحاً إلى مدينة القاهرة ... = توكلنا على الله ... في المساء وبعد أن اشتريا بعض الملابس المناسبة لتلك المدينة، رجعا للدار، تناولا عشاءهما ، دخل غرفته، كان ينتظر صباح الغد بلهفة وعقله لا يرسم سوى شبابه الذي أيقن أنه مختبئ في مدينة القاهر، ونام بعدئذ نوماً عميقاً ... في الصباح الباكر، قامت زوجته لتجد زوجها لأول مرة يغط في نوم عميق، انسلت من السرير بهدوء، ذهبت لتعد الإفطار وتختار من ملابسه التي ابتاعها بالأمس لباس السفر، صاحت باسمه من الصالة ولم يجب عليها، ذهبت إليه فوجدته كما هو يغط في نوم عميق، هزته من كتفيه، ولم يجب، هزته هزاً عنيفاً، ولكنه ظلّ كما هو، صرخت بصوت عال ِوارتمت على جسده وهي تصرخ :- = " اه ... اه ... ضاع شبابك في التعب والكدح، وحين أردت أن تسترجعه سبقك الموت "