في هذا الجزء الرابع والأخير من هذه المقالات التي تناولت بعضا من تاريخ وطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، أحب أن أوضح أن الهدف الذي دفعني لكتابتها هو استشفافي لروح انهزامية أجدها قد بدأت تتسلل لنفوس الكثيرين، علاوة على افتقاد غالبيتهم للكثير من المعلومات التاريخية التي أدارت هذا الصراع من وراء الكواليس. لقد أشاعت إسرائيل عن نفسها أنها دولة قوية لا تقهر، وأن قوتها العسكرية لا تضارعها أية قوة عسكرية أخرى في المنطقة، وقد اعتمدت على تدليل الولاياتالمتحدة لها ودعمها دعما مطلقا بلا قيد أو شرط، غير أنه من خلال تحليل وقائع عديدة يتبين لنا أن إسرائيل تغلبت على العرب بسبب تشرذمهم وانكسار روحهم المعنوية، وبسبب استغلالها لعنصري الغدر والخيانة ونقض المواثيق، ولكن عندما اتحد العرب وللمرة الوحيدة في مواجهتها أذعنت وأبدت رغبة قوية في التفاوض. ورغم أن إسرائيل تعتمد كثيرا على دعم الولاياتالمتحدة لها إلا أنها لم تدرك أن دعم الولاياتالمتحدة لها دعم مشروط وليس مطلقا كما كانت تظن، فالولاياتالمتحدة دولة تراعي أمنها ومصالحها القومية قبل أي شيء آخر، ولو نظرنا للواقع فسنجد أن الولاياتالمتحدة تدعم إسرائيل لسببين محددين، الأول هو أن تظل للولايات المتحدة رأس حربة في منطقة الشرق الأوسط من خلال حليف مخلص لا يتطرق الشك لولائه، والسبب الثاني هو استمالة مرشحي الرئاسة الأمريكية للدولة العبرية للحصول على أصوات اليهود الناخبين بالولاياتالمتحدة. من الجلي أن إسرائيل لم تدرك تضجر بعض رؤساء الولاياتالمتحدة من الاستفزازات العدوانية الإسرائيلية غير المبررة تجاه الدول العربية، فالولاياتالمتحدة تربطها علاقات تحالف وصداقة وعلاقات اقتصادية قوية مع الكثير من الدول العربية، لذلك كثيرا ما تجد نفسها في موقع حرج مطالبة بتبرير تصرفات إسرائيل العدوانية، وهو الأمر الذي تكرر مرارا وأصاب خيبة أمل وإحباط الساسة الأمريكيين الذين ما فتئوا يطالبون القادة الإسرائليين بالمزيد من ضبط النفس، هذا بالإضافة إلى أن دعم الولاياتالمتحدة لإسرائيل أضر كثيرا أمنها القومي، إذ استهدفتها الكثير من الحركات الإرهابية لضرب أهداف خاصة بها داخل الحدود الأمريكية أو خارجها ردا على هذا الدعم الغاشم للعدوان الإسرائيلي المستهجن. تبدو إسرائيل في نظر دول العالم كطفل الولاياتالمتحدة المدلل، الذي يرتكب الخطأ تلو الخطأ وعلى والديه تبرير الأمر والاعتذار عما بدر منه من خطأ، ولكن هذه الرؤية القاصرة لا يمكنها أن تبني مستقبل دولة، كما أنها تعكس وبوضوح افتقار إسرائيل لأي رؤية لمستقبلها داخل محيط منطقة الشرق الأوسط، كما أن نقضها المتكرر لوعودها ومواثيقها من منطلق القوة أثار نوازع الكره لها من جيرانها، ولعل بعض قادة إسرائيل المحنكين مثل مناحم بيجين وإسحاق رابين أدركوا هذا الأمر، كما شعروا بأهمية السلام لدولة مثل إسرائيل تعيش في محيط يعج نحوها بالكراهية ويتمنى لها الزوال، سلام عادل وشامل تجاه كل العرب لتتمكن إسرائيل من البقاء والعيش دون تهديد، وأذكر أيضا على سبيل المثال جولدا مائير التي كانت قبل حرب 1973 في قمة الغطرسة الممثلة في رفضها التام لأي مفاوضات مع العرب، لكنها بعد الحرب صرحت علنا أنها تتمنى من كلا الطرفين العربي والإسرائيلي الجلوس على طاولة المفاوضات والتخلي عن منطق الحرب. مما لا شك فيه أيضا أن الجنوح للسلم بأت أحد الأهداف التي يسعى لها شباب الدولة العبرية، فرغد العيش لا يتفق مع حياة الحروب المنهكة والمهلكة، ولكن لا سلام مع الظلم، ولا يمكن أن ينعم الإسرائيليون بحياة رغدة واقتصاد وفير دون أن يسعوا بجدية لتحقيق العدل، ولو أصرت إسرائيل على أن تحيا وسط العرب معتمدة على عتادها العسكري ودعم الولاياتالمتحدة والعالم الغربي لها فهي تدق أول مسمار في نعشها لا محالة، ولو أصرت على توسيع مستعمراتها وتجاهل الأصوات المنادية بالسلم من جيرانها فهى بذلك تبدأ رحلة صعودها نحو الهاوية، فموازين القوى في العالم تتغير وتتبدل، ولو أن إسرائيل تتحلى بقدر من الذكاء يعادل ما تدعيه من تحليها بالقوة؛ فستدرك أن السلام العادل والشامل هو الطريق الوحيد لأن تستمر في البقاء مستقبلا وأن تتمكن من العيش في سلام..