هناك تفسير شائع من أن ثورات الشعوب ما هي إلا نتاج مؤامرة من الدول العظمى لاستمرار سيطرتها على شعوب العالم الثالث، سواء كانت تلك الشعوب في الشرق، مثل ما يسمى بدول الربيع العربي، أو في الغرب مثل أوكرانيا وقبلها في رومانيا والبانيا وقبل ذلك في المجر... الخ. الشعار هو: فتش عن أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا في شكل من أشكال عدم الاستقرار في مجتمعات الجنوب وبعض دول الشمال. في حقيقة الأمر إن في مثل ذلك التفسير إهانة للشعوب في سعيها للحرية وتطلعها للتخلص من الفساد والقمع ولحياة كريمة. كما فيه الكثير من المبالغة في تصور قوة خارقة وغالبة وفعالة للدول الكبرى للعبث باستقرار دول هي في حقيقة الأمر تحت سيطرتها وطوع أمرها. بالإضافة أنه من طبيعة الدول الكبرى على مستوى النظام الدولي الميل تجاه الاستقرار والحفاظ على الأمر الواقع والسهر على تخوم مناطق نفوذها الحيوية تجاه بعضها البعض. فلو كان الأمر راجع للقوى العالمية العظمى لاختارت الإبقاء على حالة النظام الدولي، كما هي. فالقوى الدولية العظمى، في الوقت الحاضر، الولاياتالمتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي وإلى حدٍ ما الصين وبريطانيا، مع ما يسمى استقرار النظام الدولي، بمعنى: الإبقاء على أوضاع دول النظام الدولي الهامشية، كما هي. من هذا المنطلق أن ثورات ما يسمى بالربيع العربي أو الأكراني أو الرماني أو المجري، في حقيقة الأمر، أن من أنشأها وبادر بها وجازف بخوض تجربتها الشعوب نفسها، تطلعا للتغيير وطلبا للإصلح وطموحا في حياة كريمة خالية من الفساد والقمع وما إلى ذلك من شعارات عادة ما تطلقها تلك الهبات الثورية. المتغير الخارجي، إذن، وإن تلقى صدمة تلك الثورات إلا أنه ليس سببا مباشرا في إندلاعه. فكيف يساهم في عدم استقرار واقع كرسه من أجل أن يخدم مصالحه. إلا أن هذا المتغير الخارجي كثيرا ما يحسم الصراع الداخلي الذي يحتدم بين الثوار وقوى النظام القائم. ممكن على سبيل المثال تصريح من أوباما يطيح برأس النظام لتركب أمريكا، لفترة، موجة الثورة، ثم ترقب الأمور عن كثب إلى أين تتجه الأمور مع النظام الجديد الذي تفرزه الثورة هل هو في اتجاه عمل إصلاحات سياسية واقتصادية دون المساس بمصالح واشنطن أم يتجه نحو الإضرار بتلك المصالح. وعندما تتأكد من عدم وجود إرادة لنظام الثورة الجديد لخدمة مصالحها، فإنها تعمل على الإطاحة به بدعم قوى الثورة المضادة. وأحيانا تدخل القوى العظمى في مرحلة مبكرة وقبل حسم الصراع لأحد الفريقين، نحو أحدهما لأنه تراه الأقرب لخدمة مصالحها، كما حصل من تدخل حلف شمال الأطلسي لصف الثوار في ليبيا لدرجة تعقب القذافي شخصيا وقتله. وأحيانا تدخل القوى الدولية في صراع داخلي أعقب اندلاع ثورة وتتحول الدولة التي نشبت الثورة فيها إلى ساحة للحرب بالوكالة بين قوى موالية لواشنطن وروسيا، فيتحول الصراع العنيف في تلك الدولة إلى حرب أهلية ليس لجانب أحد طرفيها التحكم في حسمها، مثل ما هو حال الثورة السورية. كذلك فإن ما يحدث من صراع في أوكرانيا بين الثوار وأنصار النظام الذي أطيح به في كييف إنما هو، في حقيقة الأمر، صورة من صور الحرب الباردة حيث تستخدم أطراف النظام الداخلي لتخوض حربا بالوكالة عن بين قطبي النظام الدولي الرئيسيين. فثورات ما يسمى بالربيع العربي والأوروبي، إنما هي بالنسبة للقوى العظمى ليست أكثر من ظاهرة لعدم الاستقرار في بؤر متوترة من النظام الدولي من السهل لاحقا احتواؤها والسيطرة عليها. هي أقل خطورة وتكلفة من الحروب الإقليمية التي كان نظام الحرب الباردة يفاجأ باندلاعها، مثل الحروب التي كانت تنشب في الشرق الأوسط والهند الصينية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.. المتغير الأجنبي في مظاهر عدم الاستقرار المحلي والإقليمي لا يمكن تجاهله، حتى لو بدا أن أحداث العنف في تلك البؤر بدت للوهلة الأولى أن لا إرادة مباشرة من القوى العظمى في إشعال فتيلها.