ما يدور هذه الأيام، على ساحة السياسة الدولية، من صراع سياسي ودبلوماسي بين الغرب (الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي)، من جهة والشرق (روسيا، وإلى حدٍ ما الصين)، من جهة أخرى، يعيد عند الكثيرين أجواء وظروف ووضعية عهد الحرب الباردة الذي انهار بانهيار المعسكر الشرقي نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي. في بداية العقد الثاني من الألفية الحالية، حدثت تطورات على مستوى علاقات القوى بين الدول والكيانات العظمى، وكذلك على مستوى هامش النظام الدولي. لقد حدثت تطورات أربكت مواقف ومراكز القوى العظمى وسببت شكلا من أشكال عدم الاستقرار كادت تفقد سيطرة القوى العظمى نفوذها على النظام الدولي. ما عرف بثورات الربيع العربي وما يحدث على حواف مناطق نفوذ بعض القوى العظمى، مثل ما يحدث في البلقان، وكذا المشكلات الاقتصادية التي تعصف بالاتحاد الأوروبي وتهدد بتفكيكه من الداخل، كما حدث في اليونان وأسكتلندا وقبرص والبرتغال وما تعانيه قوى رئيسية في الاتحاد الأوروبي من مصاعب اقتصادية مزمنة وعميقة، كما هو حال فرنسا وإيطاليا وأسبانيا. بالنسبة للولايات المتحدة: هناك خطر على نفوذها في الشرق الأوسط، كما هو الحال في العراق ومصر والمد الإيراني في منطقة الهلال الخصيب. كل تلك التطورات أثبتت نهاية شهر العسل الكوني، إذا جاز التعبير، الذي كانت تتمتع فيه الولاياتالمتحدة بما يشبه الهيمنة الكونية على ما عرف حينها بالنظام العالمي الجديد. لم تعد الولاياتالمتحدة بقادرة على شن حروب كبيرة خارج حدودها، شاء العالم أم أبى، وبعيدا عن مجلس الأمن، مثال غزوها لأفغانستان والعراق. قد يكون العالم تعاطف مع واشنطن في أحداث 11 سبتمبر 2001، لكن حقيقة الأمر وحيث تطور فراغ في ميزان القوى العالمي حينها، كانت الولاياتالمتحدة من الناحية الاستراتيجية قادرة على فرض مصالحها ورؤاها الاستراتيجية على العالم. لكن الأمور لم تعد كذلك، بداية العقد الثاني من الألفية. روسيا استراتيجيا وسياسيا واقتصاديا، أضحت قادرة على فرض وجودها على الساحة الدولية كقوة عظمى. استراتيجيا: روسيا تمكنت من استعادة مناطق نفوذ الاتحاد السوفيتي في أجواء الكرة الأرضية بإعادة إطلاق طائراتها الاستراتيجية طويلة المدى لاستعادة اقتسامها لأجواء الأرض مع الولاياتالمتحدة. اقتصاديا: نجحت روسيا أن تكون ضمن الدول العشرين الأغنى في العالم، وقبل ذلك ضمن مجموعة العشر، حتى بعد تأخر انضمامها لمنظمة التجارة العالمية. روسيا أيضا أعادت نفوذها السياسي والاقتصادي والجغرافي على مناطق نموذها الحيوية التاريخية في البلقان حتى يوغوسلافيا القديمة وفي آسيا الوسطى على طول حدودها الجنوبية مع الصين. والآن نراها تقاتل بشراسة على آخر معاقلها في المياه الدافئة في شرق المتوسط (سوريا). لكن مع ذلك لا يمكن القول بعودة أجواء الحرب الباردة للنظام الدولي. بداية تقر كل من الولاياتالمتحدةوروسيا أنهما صديقان وليسا أيديولوجيا أعداء. ثم إن هناك هدفا مشتركا يسعى كل طرف وأحيانا بالتعاون مع الآخر لمحاربته، ألا وهو ما يسمى بالإرهاب، مع ترك الحرية لكل طرف بتعريفه ووسائل محاربته في مناطق نفوذه والتعاون في محاربته في تخوم مناطق النفوذ الدولية لهما، مع تبادل المعلومات الاستخباراتية. داخليا، ومن الناحية السياسية والاقتصادية، كلاهما يأخذان بالممارسة وقيم الليبرالية في الاقتصاد والسياسة. إذن من الصعب القول بعودة نظام الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين، يهدد صراعهما الاستراتيجي والايديولوجي على مكانة الهيمنة الكونية، بنشوب حرب كونية غير تقليدية بينهما. كل ما في الأمر هو إعادة رسم الحدود الكونية لنفوذهما الأممي التقليدي، على قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»، مع عدم استبعاد إحداث تحرشات محدودة على مناطق النفوذ تلك، حتى مع تطور إمكانية تقدم أحدهما على الآخر، استغلالا لظروف محلية أو إقليمية مؤاتية، في نقاط ومواقع استراتيجية على طول تلك التخوم، مثل ما يحدث هذه الأيام من صراع بينهما حول مصر.. العالم قد يعاد رسم خريطة مناطق هوامشه، لكن يظل متقاسما جغرافيا واستراتيجيا بين قطبين رئيسيين (موسكوواشنطن). وهذا هو أساس عدم الاستقرار الذي ستشهده محليا وإقليميا مناطق الهوامش الداخلية للنظام الدولي، مستقبلا.