يلوم بعض الناس الإعلام الجديد متهمين إياه بالتسبب في ظهور آراء مخالفة للأعراف وصادمة لذوي التوجهات المحافظة أو التقليدية، وذلك بسبب سهولة المشاركة في قنواته وسعة مجال الحرية التي يتيحها للناس في عرض أفكارهم وآرائهم حتى المخالف منها للمألوف والمعتاد، فينتج عن ذلك إثارة المنازعات وإشعال الخصومات واتخاذ الإعلام سلما لتوجيه الاتهامات واللكمات اللفظية ما بين المختلفين. هذا اللوم الذي يوجهه الناس للإعلام الجديد، أراه نابعا من تأثرهم بالثقافة المجتمعية التي نشأوا في وسطها وتشربوا قيمها، فثقافة مجتمعهم ثقافة مؤسسة على فكر الإزاحة، الذي من صفته اللجوء إلى إزاحة كل ما لا يعجبه من أمامه، فيعمد إلى طرد ومنع كل ما لا يرضيه مما يراه شاذا وغريبا وغير مألوف من الأفكار أو التصرفات، فمن صفة فكر الإزاحة الاجتهاد في طمر كل ما لا يحب ليزيحه عن وجهه، فلا يبقى شيء منه ظاهرا أمامه يزاحم غيره مما هو معتاد ومقبول. وهذه الثقافة المؤسسة على إزاحة كل ما يبدو شاذا وغريبا عن مجاورتها، تستميت في سبيل الحفاظ على ساحة الفكر خالصة نقية من الغريب والمختلف؛ لذلك فإن الإعلام الجديد حين يمكن الناس من إطلاق أسر ما تكنه صدورهم من الأفكار والرؤى التي كانت مطمورة من قبل، يفسد عليها سياستها الإزاحية ويتركها عزلاء بلا سلاح يخلصها من مجاورة ذلك الشاذ والغريب الذي تكره مجاورته. تشبع الناس بثقافة فكر الإزاحة يجعل نفورهم من الأفكار والرؤى غير المألوفة أمرا متوقعا. فهم لم يعتادوا سماع الآراء الحرة تجول وتصول داخل حماهم دون أن يكون لهم سلطة عليها تزيحها بعيدا عنهم. ومن البدهي أن ينصب لومهم على هذا الإعلام الجديد الذي جاء ليقدم فرصا ذهبية لأولئك الذين كانوا يعيشون اعتقالا فكريا يحول بينهم وبين الإفصاح عما تكنه ضمائرهم. وزاد في ذلك أن هذا الإعلام لا يلزم أحدا بالكشف عن هويته عند التحدث، فشجع ذلك الناس على قول ما يشاءون مما كانوا لا يستطيعون قوله من قبل. ليس هذا فحسب، وإنما أيضا من خصائص ثقافة الإزاحة أنها توفر بيئة صالحة لانتشار فيروس سوء الفهم لما يقال، فحين يعتاد الناس على سماع المألوف وحده، يفقدون المناعة ضد المغاير والمختلف فيصيبهم داء سوء الفهم. وسوء الفهم يحدث غالبا بسبب اعتماد الناس على الصورة الذهنية المشكلة في عقولهم من قبل لصاحب القول، وذلك وفق أحكام وتصنيفات سابقة يختزنونها في أذهانهم عنه، فيأتي فهمهم لما يقول مبنيا على تلك الأحكام وليس على المعنى الصحيح لما قال.