محمد بن سلمان حضور السعودية المتجدد وهم العرب    مبادرة عون.. تموضع لبنان بالمسار العربي    القيادة تهنئ رئيس لبنان بذكرى الاستقلال    الاتفاق يتغلب على الفيحاء في دوري روشن    ألعاب التضامن الإسلامي "الرياض 2025" .. أخضر اليد يسدل الستار على مشاركة المنتخبات السعودية بتحقيقه الميدالية الفضية    السرقة تحت غطاء المقدس    بيش يخطف وصافة دوري الدرجة الثالثة بفوز ثمين على الأسياح    تعادل ضمك والنجمة سلبيًا في دوري روشن للمحترفين    سعودة المسلسلات الأجنبية.. خطر ناعم يخترق الأسر السعودية    تحديث «إكس» يفضح مواقع إنشاء حسابات قادت حملات سلبية ضد السعودية    G20 في جنوب إفريقيا: مقاطعة أمريكية وتحذير فرنسي حول مستقبل المجموعة    افتتاح جامع المجدوعي بالعاصمة المقدسة    228 مليار ريال نمو في سيولة الاقتصاد السعودي خلال عام    وزير الخارجية: التحديات العالمية تتطلب تنسيقا دوليا مستمرا    السِّدر واللوز والتنضب تتصدر النباتات المحلية الملائمة لتشجير الباحة    جامعة الإسكندرية تمنح باحثا سعوديا الدكتوراه في دراسة تربط بين القلق الرقمي وإدمان التواصل    الداخلية : ضبط (22094) مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    أمير المنطقة الشرقية يدشّن غداً الأحد بحضور وزير النقل عددًا من مشاريع الطرق الحيوية بالمنطقة    المملكة تُدرِج 16 عنصرًا في قائمة اليونسكو للتراث غير المادي    صحراء مليحة بالشارقة تشهد انطلاق النسخة الثانية لمهرجان تنوير بأمسية فنية موسيقية وتجربة إنسانية ملهمة    طبيب أردني: "الذكاء الاصطناعي" قد يحل أزمة نقص الكوادر في العلاج الإشعاعي    الصفا يتحدى اللواء بحثًا عن مصالحة جماهيره في الجولة التاسعة    فوز الأهلي والاتحاد والنصر والهلال في الجولة الأولى من الدوري الممتاز لكرة الطائرة    كتاب التوحد في الوطن العربي.. قراءة علمية للواقع ورؤية للمستقبل    اتفاقية بين العوالي العقارية والراجحي كابيتال ب 2.5 مليار ريال لتصبح الأكبر في سيتي سكيب 2025    أمانة الطائف تطلق مبادرة (شاعر الأمانة) تشجيعًا للمواهب الإبداعية في بيئة العمل    تراجع أسعار النفط لأدنى مستوياتها في شهر    الصين تطلق بنجاح قمرًا صناعيًا تجريبيًا جديدًا لتكنولوجيا الاتصالات    انطلاق النسخة الأكبر لاحتفال الفنون الضوئية في العالم    افتتاح جامع المجدوعي بالعاصمة المقدسة    جوتيريش يدعو مجموعة العشرين لوضع حد للموت والدمار وزعزعة الاستقرار    «سلمان للإغاثة» يوزّع (530) سلة غذائية في ولاية الخرطوم بالسودان    الاتحاد يحقق انتصاره الأول في الدوري بقيادة كونسيساو ضد الرياض    نائب أمير الرياض يرعى احتفال السفارة العمانية بيومها الوطني    مؤتمر MESTRO 2025 يبحث تقنيات علاجية تغير مستقبل مرضى الأورام    عيسى عشي نائبا لرئيس اللجنة السياحية بغرفة ينبع    أكثر من 100 الف زائر لفعاليات مؤتمر ومعرض التوحد الدولي الثاني بالظهران    الشيخ صلاح البدير: الموت محتوم والتوبة باب مفتوح لا يغلق    الشيخ فيصل غزاوي: الدنيا دار اختبار والصبر طريق النصر والفرج    نادية خوندنة تتحدث عن ترجمة القصص الحجرة الخضراء بأدبي جازان    تعليم الأحساء يطلق مبادرة "مزدوجي الاستثنائية"    افتتاح مؤتمر طب الأطفال الثاني بتجمع تبوك الصحي    كيف يقلل مونجارو الشهية    العبيكان رجل يصنع أثره بيده    كانط ومسألة العلاقة بين العقل والإيمان    المودة تطلق حملة "اسمعني تفهمني" بمناسبة اليوم العالمي للطفل        أمير تبوك يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة نجاح الزيارة التاريخية لسمو ولي العهد للولايات المتحدة الأمريكية    بيان سعودي أميركي مشترك: وقعنا شراكات في جميع المجالا    أمير تبوك يكرم شقيقين لأمانتهم ويقدم لهم مكافأة مجزية    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل العام لجمهورية الصومال    انطلاق النسخة ال9 من منتدى مسك.. البدر: تحويل أفكار الشباب إلى مبادرات واقعية    محافظ جدة وأمراء يواسون أسرة بن لادن في فقيدتهم    الجوازات تستقبل المسافرين عبر مطار البحر الأحمر    فلسطين تبلغ الأمم المتحدة باستمرار الانتهاكات الإسرائيلية    ثمن جهودهم خلال فترة عملهم.. وزير الداخلية: المتقاعدون عززوا أمن الوطن وسلامة المواطنين والمقيمين    أمير الرياض يستقبل سفير المملكة المتحدة    استقبل وزير الحج ونائبه.. المفتي: القيادة حريصة على تيسير النسك لقاصدي الحرمين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التغيرات النوعية في الحضارة الإنسانية
نشر في الرياض يوم 20 - 02 - 2005

إن حركة المجتمعات محكومة بالتصورات السائدة عن الإنسان وقدراته وعن الكون وكيفية التعامل معه وعن الحضارة وكيفية تكوينها وعن مدى الارتباط بالماضي والاهتمام بالحاضر والتخطيط للمستقبل
أشرت في الحلقات الثلاث السابقة إلى ثلاثة تغيرات نوعية طرأت على الحضارة الإنسانية هي الاعتراف بفردية الإنسان ثم احترام سيادة الدول الضعيفة ثم إخضاع المألوف للمراجعة والنقد والتحليل أما في هذه الحلقة فنشير إلى التغير النوعي الرابع وهو الانتقال من فكرة التراجع الحضاري خلال الأجيال إلى فكرة التقدم المستمر..
إن الناس في الحضارات القديمة كانوا مأخوذين بفكرة أن كل جيل لاحق هو أدنى في كل شيء من الجيل الذي قبله وطبقاً لهذا التصور المعكوس فإن الحضارة بنظرهم في حالة تراجع دائم كما أن قدرات الإنسان وعلومه وأخلاقه في حالة تدهور مستمر..
كان المنطق معكوساً تماماً وكانت الحقيقة مقلوبة كلياً ومع أن فكرة التراجع تتصادم مع بداهات العقل وتستنكرها أوليّات المنطق إلا أن تقديس السلف كان يعمي الخلف عن الانتباه لهذا التصور الخاطئ المقلوب فظلَّت الأجيال في كل الحضارات خلال آلاف السنين مأخوذة بفكرة التراجع الحضاري والتدهور الإنساني..
ثم أشرق الفكر الفلسفي في اليونان في القرن السادس والخامس قبل الميلاد ففكَّ قيود العقل اليوناني وأطلق طاقات التفكير الحر وراح يسخر من الماضي ويكشف عورات التقليد ويعرّي جهالات الناس مما أوقد الجدل وأيقظ النزعة الفردية وآذن بانبلاج فجر جديد في الحضارة الإنسانية إلا أن البشرية في ذلك الزمن لم تكن متهيئة لهذه الطفرة الثقافية الهائلة مما أخَّر التطور الحضاري عدداً من القرون..
ومع أن الفكر الفلسفي قد أزيح قرونا عن التأثير فاستمرت فكرة التراجع الحضاري والتدهور الإنساني مهيمنة على العقل البشري مما جعل الحضارة تواصل دورانها مع نفس المسارات القديمة أكثر من عشرة قرون إلا أن الذخائر الفلسفية بقيت حية تنتظر التفعيل فجاء عصر النهضة فاستدعاها وأزاح عنها ركام التعطيل ثم امتدَّت إشراقاتها الباهرة إلى كل الأقطار الأوروبية فاستيقظت أوروبا يقظتها التي لم تنم بعدها وراحت تعيد للعقل اعتباره وتعيد للفلسفة مكانتها فاشتد الجدل وتفتحت آفاق المعرفة وبدأت مرحلة تأسيس العلوم وأخذت التغيرات النوعية في الحضارة الإنسانية تتسع وتتنوّع حتى أصبحت في الغرب ممارسة يومية معاشة لا يحس الناس بها ولا يعرفون أن هذه التغيرات النوعية التي صارت تلقائية في حياتهم مازالت في القرن الحادي والعشرين غريبة ومجهولة بل ومرفوضة في مجتمعات كثيرة..
إن حركة المجتمعات محكومة بالتصورات السائدة عن الإنسان وقدراته وعن الكون وكيفية التعامل معه وعن الحضارة وكيفية تكوينها وعن مدى الارتباط بالماضي والاهتمام بالحاضر والتخطيط للمستقبل ولقد كانت فكرة حتمية التراجع الإنساني جيلاً بعد جيل من أرسخ وأسوأ التصورات البشرية وكان هذا التصور من أشد عوامل الإعاقة الحضارية ونتجت عنه أضرار فادحة على الحياة الإنسانية فقد بقيت الحضارات مرتهنة بهذا التصور الخاطئ لذلك كان الانتقال من فكرة حتمية التراجع إلى فكرة امكانية التقدم ثم إقامة البرهان عمليا على صدق هذه الفكرة يمثل طفرة ثقافية هائلة أخرجت الحضارة من خطوط الدوران الأفقي العقيم إلى سلّم الارتقاء الباهر المستمر..
لقد كانت فكرة حتمية تراجع كل جيل عن الجيل الذي قبله فكرة قاصمة للعقل وقاتلة للمال ومحبطة للجهود وخانقة للإبداع وباعثة لليأس ونافية للتقدم لذلك كان التحرر من هذه الفكرة القاصمة فاتحاً لعهد حضاري جديد يتعارض كليا مع العهود السابقة فاكتشاف إمكانات التقدم هو أحد الاكتشافات الإنسانية الكبرى إن هذا الاكتشاف الباهر الذي صار الآن بديهيا قد نقل الإنسانية من مستوى الانفعال التلقائي السلبي الى مستوى الفعل الإيجابي الخلاق إنه أحد المنعطفات الحاسمة في التاريخ الإنساني فلقد مثّل الانعتاق من فكرة التراجع الدائم إلى واقع التقدم المستمر نهاية مرحلة الدوران الأفقي العقيم وبداية مرحلة الانطلاق الصاعد والدائم..
وبتطبيق قانون التوقّع على هذا الموضوع فإن المجتمع المأسور بفكرة التراجع لا يمكن أن يتوقع الناس في إمكانية التقدم وما دام أنهم لا يتوقعون ذلك فإنهم لا يبحثون عن وسائله ولا يحاولون السعي إليه بل إن التقدم لا يخطر على أذهانهم فهم مأخوذون بفكرة معاكسة تماماً هي فكرة التراجع الحتمي أما المجتمعات التي تخلّت عن فكرة التراجع وانتقلت إلى فكرة التقدم فإنها تتوقع دائماً تحقيق المزيد منه فتبتكر من المناهج والوسائل والأدوات ما يحقق لها استمرار الصعود ومداومة الانطلاق إنها تواصل البحث في الآفاق وفي الأنفس ولا تقنع بأي مستوى تصل إليه ولا تتوقف عند أي نجاح ت حققه وإنما كل مستوى من مستويات التقدم التي تجتازها ما هو إلا درجة من درجات سلَّم الصعود الذي لا نهاية له..
لذلك فإن فكرة التقدم قد أحدثت تغييراً جذرياً في البنية الثقافية لأوروبا فأصبح الناس ينظرون إلى الوجود وإلى أنفسهم وإلى أسلافهم وإلى الماضي والحاضر والمستقبل نظرة مغايرة كلياً لما كان أسلافهم ينظرون بها فاستبدلوا فكرة التراجع التي كانت تكبّل الحضارة الإنسانية إلى فكرة التقدم التي أطلقت طاقات الناس وحفزتهم إلى المبادرات الجسورة بل دفعتهم إلى المغامرات الظافرة..
ولابدَّ أن نتذكر دائما أن الأفكار التي تحتل عقولنا هي التي توجّه سلوكنا وترسم مسارات نشاطنا وتحدّد مستوى حياتنا وهي إما أن تقيِّد العقول وتبقيها مأسورة في خطوط الدوران الأفقية وإما أن تكون حافزة لها على الانطلاق الخلاق فتدفعها إلى تنمية قابليات الإنسان الإبداعية وتخرجها من حيّز الإمكان إلى حيز الفعل وبذلك يتدفق نهر الازدهار ولقد كانت فكرة التراجع فكرة مخدِّرة وقامعة أما فكرة التقدم فكانت بعكسها فكرة موقظة وحافزة..
ولكي ندرك عظمة المضمون الثوري الهائل لفكرة التقدم ونعرف التغيُّر النوعي الذي أضافته هذه الفكرة العظيمة إلى الثقافة الإنسانية وبالمقابل لكي نحس برسوخ وهيمنة فكرة التراجع في الثقافات البشرية ينبغي أن نقارن بين أوضاع المجتمعات المتخلفة التي مازالت حتى الآن مكبَّلة بهذه الفكرة القاصمة وأوضاع المجتمعات التي تخلصت منها لنرى أن فكرة التقدم تعدّ من الأفكار النوعية الأساسية التي أدخلتها أوروبا على الحضارة الإنسانية وليس أدل على المضمون الثوري لهذه الفكرة من انه بعد قرون من اكتشاف خطأ فكرة التراجع الحضاري وظهور صحة فكرة التقدم ما زالت مجتمعات كثيرة حتى اليوم ترى أن الأول لم يترك شيئا لمن يأتون بعده فالتخلف في نظر هذه المجتمعات المتخلفة ليس ناتجا عن فقدان القدرة على اللحاق بالمزدهرين وإنما هو تراجع عما كان عليه الأسلاف الأقدمون فالأقدم دائماً في نظرها هو الأحق بالاحتذاء إنها تمجّد الأموات وتستهين بالأحياء إنها تحتقر ذاتها وتبجل أسلافها وتستخف بحاضرها وتعظم ماضيها ولا تتصوّر إمكانية تحسين حاضرها ولا التخطيط لمستقبلها إلا طبقاً لفكرة التراجع التي تقتضي أن لا يجتهد الأحياء في حل معضلاتهم باستخدام علوم العصر الدقيقة ومنجزاته الثرية والاستفادة من تجارب الأمم المزدهرة وإنما لابد من العثور في التراث القديم على قول أو فعل يحدّد الحلول لمعضلات لم يواجهها الأقدمون ولم تخطر ببال أحد منهم!!!.
إن الفجوة العميقة الواسعة التي تفصل بين اكتشاف هذا الخطأ البشري الفادح الذي توارثته الأجيال في كل الحضارات القديمة وبين عجز المجتمعات المتخلفة حتى الآن بعد قرون من ثبات صحته وظهور فاعليته عن استيعاب هذا الاكتشاف الحاسم إن هذه المفارقة تؤكد عظمة الاكتشاف وتُضاعف أهميته وتدل على شدة بُعْده عن الأذهان وعلى أن التصورات الراسخة مهما كانت خاطئة تبقى صامدة وتستعصي على التقويض أو الإضعاف أو الإزاحة مهما جوبهت بالحقائق إلا إذا اضطرت إلى ذلك اضطراراً ولا يحصل هذا الاضطرار إلا إذا حيل بينها وبين احتكار الرأي وتحقق الانفتاح الثقافي وتوفرت التعددية الفكرية..
وهذا التنافر الصارخ بين النجاح الباهر لفكرة التقدم وبقاء فكرة التراجع صامدة رغم كل النجاحات المناقضة يؤكد أن الإفلات أوَّل مرة من قبضة فكرة التراجع التي كانت مهيمنة وراسخة واستبدالها بفكرة التقدم المناقضة: يُعَدُّ عملاً جباراً وخارقاً وليس أدل على فرادة هذا الاختراق الباهر من أن مجتمعات كثيرة في القرن الحادي والعشرين مازالت مأسورة بفكرة التراجع وعاجزة عن قبول فكرة التقدم حتى بعد كل هذا الإشعاع الباهر طيلة القرون الحديثة ومن هنا نرى الفروقات الشاسعة بين أوضاع المجتمعات في هذا العصر فالمتخلفون يستخدمون المنجزات لكنهم لا يعرفون الاختراقات الثقافية ولا التغيرات النوعية التي كانت وراء هذه الإنجازات..
وإذا كانت فكرة التراجع الحضاري ناشئة عن الكثير من الالتباسات الثقافية وفي مقدمتها تقديس السلف والمبالغة المفرطة في تعظيمهم فإن الانتقال منها إلى فكرة التقدم لا يعني بخس الأقدمين حقهم ولا التقليل من شأنهم بل إن هذا الانتقال يقوم على حقيقة بادهة وهي أن المنطق السليم يقتضي أن المعرفة البشرية تنمو باطراد وأن كل جيل جديد ينبغي أن يضيف إلى الرصيد الإنساني ما ينجزه من معارف وما يمرُّ من خبرات وأنه كلما امتدَّ الزمن تضاعفتْ المعارف والقدرات والامكانات الإنسانية وأنه يمكن قياس عمر الحضارة على عمر الفرد.. فالفرد يبدأ جنيناً ثم طفلاً ثم شاباً ثم يبلغ الرشد ثم يشتد نضجه بعد تمام الأربعين فيكون بعد تقدُّمه في العمر أوسع معرفة وأكثر تجربة وأنضج خبرة وأنفذ بصيرة وأقوى تعقلاً وكذلك يكون تطور المعرفة البشرية فعلى كل جيل ان يضيف معارف جديدة وخبرات طارئة ومن ناحية ثانية فإن أعداد الناس تتضاعف بتقدم الزمن وكلما ازداد العدد صارت فرصة ظهور النابهين اكثر ومن ناحية ثالثة فإنه مع تقدم الزمن ينمو التواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة وهذا يؤدي إلى تلاقح الأفكار وتنوع مصادر المعرفة ومن ناحية رابعة فإن وسائل الاكتشاف تتطور وهذا يقتضي تقدُّم المعرفة بتوفر المزيد من أدواتها.
ولكن رغم كل هذه الحيثيات المتضافرة فقد كان صعباً على الناس قبول فكرة التقدم لأنهم ظلوا عصوراً متتالية يتوارثون فكرة التراجع لذلك فإنه في بداية الانبعاث الأوروبي حينما كان الانتقال إلى فكرة التقدم صاعقاً ومخالفاً للمألوف بصورة حادة اضطر المفكرون إلى ترديد مقولة: ان اللاحقين رغم أنهم أقزام فإنهم يرون مسافة أبعد من السابقين لأن الخَلَفَ الأقزام يقفون فوق أكتاف السلف العمالقة فينضاف طولهم إلى طول الأقدمين فيصبحون أرفع رؤوساً وأبعد نظراً فيرون بُعْداً واتساعاً ما لم يكن يراه من سبقوهم أو كما كان يردد يوحنا السالسبوري الذي يقول عن برنار شارتر بأنه: «اعتاد مقارنتنا بالأقزام الضئيلة التي تقف على أكتاف المرَدَة حيث نرى قدراً أكثر وإلى مسافة أبعد مما رأى أسلافنا وذلك ليس لأننا رُزقنا نظراً أثقب ولا طولاً أفرع منهم بل لأننا مرفوعون محمولون صعداً على هامات قاماتهم المديدة» لقد كان يقال هذا الكلام المهادن لتقريب فكرة التقدم ومحاولة التسلل بها إلى الأذهان طمعاً في أن يُفسَحَ لها بالدخول إلى عالم المألوف فتهزُّه من داخله ثم تزيله أما الحقيقة فهي أن القابليات الإنسانية هي نفسها لدى الأقدمين واللاحقين فلا أقزام ولا عمالقة لكن هذه الملاينة أو المداهنة أو الدغدغة كانت تستهدف استعطاف العقول المغلقة وتليين العواطف الجامدة لأنه بمجرد أن يقتنع الإنسان بالتوقف والمراجعة والتحديق من جديد بالمألوف فسوف تبهره أضواء الحقيقة الساطعة وعندئذ لابد أن يقتنع بأن فكرة التراجع الحضاري خاطئة وبأن فكرة التقدم فكرة صحيحة فيرى بوضوح بأن نصيب الأجيال اللاحقة من المعارف والخبرات والتجارب والمهارات لابد أن يكون أوفر وأنضج من نصيب السابقين كما أن المتاح لهم من التسهيلات والتقنيات والإمكانات أضعاف ما كان متاحاً للأقدمين وسوف يدرك أيضاً أن التميز ليس محصوراً بجيل دون آخر وإنما كل جيل تكون فيه كثرة حاشدة مقلدة وقلة متميزة مبدعة وأنه مع زيادة عدد السكان بمرور الزمن تزداد نسبة المتميزين مما يعطي العصور اللاحقة ميزة لم تكن متوفرة في العصور الأسبق كما أنه مع التطورات العلمية والتقنية والثقافية والمنهجية يتاح للمتأخرين المتميزين ما لم يتح لأمثالهم في العصور السابقة وبهذا تكون فكرة التراجع منقوضة بوضوح شديد وبالمقابل تكون براهين فكرة التقدم شديدة الوضوح والقوة..
ومع كل هذا الوضوح في أهلية فكرة التقدم وتناقض فكرة التراجع مع ابسط أوليات المنطق فإن عملية الانتقال الخارق تطلبت جهوداً خارقة ولكن النتائج كانت عظيمة وتتناسب مع هذا التغير النوعي في التفكير والقيم والتنظيم والممارسة.
إن تخلي الأوروبيين عن فكرة التراجع الحضاري التي جاءتهم من الشرق لم يكن سهلاً ففكرة التقدم المطرد لم تنتصر إلا بما يشبه الولادة المتعسرة فقد تواترت جهود المفكرين لتوطينها وتوفير أسباب القبول لها حتى صارت الفكرة حقيقة حية ولكن لولا وجود القابلية النسبية في الثقافة الأوروبية لبقيت الفكرة مرفوضة بدليل انه رغم نجاحها الميداني على كل الأصعدة فإنها ما زالت مرفوضة في الثقافات المغلقة لكن الروح الفلسفية الكامنة في العقل الأوروبي منذ ظهور المعجزة اليونانية أبقت فيها هذه القابلية فوجَدَتْ فكرة التقدم قبولاً عاماً في أوروبا وما أن شاعت هذه الفكرة في المجتمعات الأوروبية وأصبحت عنصراً رئيسياً من عناصر الثقافة اليومية حتى نقلت الإنسان الأوروبي من العجز إلى القدرة ومن الاستسلام إلى الاقتحام ومن التردد والإحجام إلى الثقة والإقدام لقد ألهمت عقله وألهبت إرادته وأجَّحَتْ طاقات نفسه فاكتشف ينابيع الإبداع في ذاته بعد أن ظلت هذه الينابيع خلال العصور محجوبة عنه بالأعراف الجامدة والمفاهيم المعوِّقة..
لقد ظلت فكرة التراجع الحضاري تقيِّد العقل البشري قروناً مديدة وتكبِّل الحضارة الإنسانية آمادا طويلة وتستبقي الأمم والشعوب مأسورة بخطوط الدوران الأفقية أو تدفعها نحو المزيد من الانحدار أما اكتشاف خطأ فكرة التراجع الحضاري المدمِّرة والانتقال منها إلى فكرة التقدم فقد انفردتْ بهما الحضارة الإغريقية ثم أحيتهما الحضارة الغربية الحديثة وبهذا الإحياء والتفعيل تحقق واحد من أبرز وأهم التغيرات النوعية في الحضارة الإنسانية ولكن هذا التغير النوعي الملهم الذي تحقق للمزدهرين منذ قرون عديدة ما زال غريباً على الثقافات المغلقة وسوف تظل هذه الثقافات تعيش أزمات التخلف حتى تتخلى عن فكرة التراجع الحضاري وتأخذ بفكرة التقدم التي لا تقرُّ التوقف ولا ترضى بالتراجع ولا تعترف بأي حدود للنمو وإنما هي دائمة الصعود متنوعة الإبداع..
(يتبع)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.