بدء أعمال المرحلة الثانية من مشروع تطوير الواجهة البحرية لبحيرة الأربعين    من «دافوس».. «الجبير» يبحث التعاون المشترك مع البيرو والأمم المتحدة    "البيئة": قيمة مخالفات نظام مصادر المياه واستخداماتها تتجاوز 7.1 مليون ريال    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير جوازات المنطقة بمناسبة تعيينه    اعتقالات وحواجز أمنية وتفجيرات.. جرائم إسرائيل تتصاعد في «جنين»    الأمير محمد بن ناصر يدشن المجمع الأكاديمي الشرقي بجامعة جازان    إحباط تهريب 352275 قرصاً من مادة الإمفيتامين المخدر في تبوك    أمير الشرقية يكرم الداعمين لسباق الشرقية الدولي السادس والعشرين للجري    محافظ الخرج يستقبل مدير مكافحة المخدرات    «روشن» شريك استراتيجي للنسخة الرابعة لمنتدى مستقبل العقار 2025    أنغولا تعلن 32 حالة وفاة بسبب الكوليرا    تكريم 850 طالبًا وطالبة بتعليم الطائف    توقيع شراكة بين جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل وجمعية هجر الفلكية    الشيباني: الأكراد تعرضوا للظلم وحان بناء دولة المساواة بين السوريين    جامعة حائل تستضيف بطولة ألعاب القوى للجامعات    إلى رقم 47 استمتع بها.. ترامب يكشف عن رسالة بايدن «الملهمة    صندوق الاستثمارات العامة وشركة "علم" يوقّعان اتفاقية لاستحواذ "علم" على شركة "ثقة"    500 مليار دولار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي بالولايات المتحدة    فرصة هطول أمطار رعدية على عدة مناطق    كعب «العميد» عالٍ على «الليث»    ارتفاع أسعار الذهب إلى 2748.58 دولارًا للأوقية    الاتحاد والشباب.. «كلاسيكو نار»    وفاة مريضة.. نسي الأطباء ضمادة في بطنها    انخفاض في وفيات الإنفلونزا الموسمية.. والمنومون ب«العناية» 84 حالة    محافظ الخرج يزور مهرجان المحافظة الأول للتمور والقهوة السعودية    وزير الخارجية من دافوس: علينا تجنّب أي حرب جديدة في المنطقة    سكان جنوب المدينة ل «عكاظ»: «المطبّات» تقلقنا    10 % من قيمة عين الوقف للمبلّغين عن «المجهولة والمعطلة»    تأسيس مجلس أعمال سعودي فلسطيني    أبواب السلام    إنستغرام ترفع الحد الأقصى لمقاطع الفيديو    قطة تتقدم باستقالة صاحبتها" أون لاين"    «موسم العرمة» .. طبيعة ساحرة وتجربة استثنائية    وفد "الشورى" يستعرض دور المجلس في التنمية الوطنية    تعديل قراري متطلبات المسافات الآمنة حول محطات الغاز.. مجلس الوزراء: الموافقة على السياسة الوطنية للقضاء على العمل الجبري بالمملكة    ولي العهد يرأس جلسة مجلس الوزراء    وفاة الأمير عبدالعزيز بن مشعل بن عبدالعزيز آل سعود    علي خضران القرني سيرة حياة حافلة بالعطاء    إيجابية الإلكتروني    شيطان الشعر    خادم الحرمين وولي العهد يُعزيان الرئيس التركي في ضحايا حريق «منتجع بولو»    حماية البيئة مسؤولية مشتركة    كوليبالي: الفوز ب«عرض كبير» هدفنا    كيف تتخلص من التفكير الزائد    عقار يحقق نتائج واعدة بعلاج الإنفلونزا    حفل Joy Awards لا يقدمه إلا الكبار    بيع المواشي الحية بالأوزان    خطة أمن الحج والعمرة.. رسالة عالمية مفادها السعودية العظمى    "رسمياً" .. البرازيلي "كايو" هلالي    الدبلوماسي الهولندي مارسيل يتحدث مع العريفي عن دور المستشرقين    بيتٍ قديمٍ وباب مبلي وذايب    تأملات عن بابل الجديدة    متلازمة بهجت.. اضطراب المناعة الذاتية    في جولة "أسبوع الأساطير".. الرياض يكرّم لاعبه السابق "الطائفي"    مفوض الإفتاء في جازان: المخدرات هي السرطان الذي يهدد صلابة نسيجنا الاجتماعي    سعود بن نايف يكرم سفراء التفوق    برئاسة نائب أمير مكة.. لجنة الحج تستعرض مشاريع المشاعر المقدسة    محافظ جدة يطلع على برامج إدارة المساجد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المندفعون تلقائياً أنجزوا خطوات الحضارة
نشر في الرياض يوم 08 - 04 - 2012

يتدفق الماء زاخراً تلقائياً من النبع المكتظ ولا يتوقف منه التدفق أبداً مادام الاكتظاظ قائماً لأنه مدفوع بقوة من داخله بينما ان استخراج الماء من بئر يتطلب إيجاد مضخة منتظمة العمل قادرة على رفع الماء ويتوقف الماء فور توقف الضخ لأنه ليس ذاتي الحركة وإنما يعمل بطاقة من خارجه منفصلة عنه ومثل ذلك يقال عن فاعلية الإنسان في تحصيل المعرفة أو في أداء العمل ومن هنا جاء إخفاق التعليم وكلال الأداء في الكثير من المجتمعات فشرط الكفاية المنتجة أخذ وعطاء أن تكون الفاعلية ذاتية الحركة وليست بدفع خارجي فتتوقف بتوقف الدفع أما اختراق السائد وكسر المعتاد واقتحام المجهول وبلوغ مرحلة الإبداع أو الابتكار أو الاختراع أو الكشف الخارق فهذه مستويات عليا يستحيل بلوغها إلا باهتمام تلقائي قوي مستغرق...
لقد كانت التحديات والإثارات والصدمات والرَّجات والصراعات متواترة وبالغة القوة فكانت كافية لخلخلة الانتظام التلقائي فصارت الاستجابات الإيجابية تتكاثر فظهر المغامرون الشجعان الذين فتحوا للعالم آفاقاً لم تكن تخطر على بال أحد في مجالات الفكر والفعل والاختراع والإبداع
إن المجتمعات التقليدية لا تتطور بتعميم التعليم وانتشار التقنيات فلكل ثقافة جهاز هاضم يجعل تلقائياً كل وافد في صالح السائد فالنفوس لا تتغير بمعلومات تتلقاها اضطراراً وبضيق وتأفف مهما كانت المعلومات مهمة وكثيفة فهي تصل لعقول قد تشكلت ترفض تلقائياً أية تصورات لا تتفق معها فالتغيير يتطلب تسخيناً محركاً للنفس وإلهاباً يفتح مغاليق العقل ويهيئ قابليات الإنسان...
لذلك فإن إنتاج وإنجاز من يعمل لنفسه أو باندفاع ذاتي تلقائي ليس كإنتاج وإنجاز من يعمل لغيره أو يتحرك اضطراراً وكذلك في مجال تحصيل المعرفة فإن من يبحث بنفسه بدافع ذاتي تلقائي عن الحقيقة ويسعى للمعرفة بلهفة وشغف وشوق متجدد ليس كمن يضطر لمواصلة الدراسة سنوات طويلة في ضجر وضيق وكلال ليحصل على شهادة للوجاهة والوظيفة واستجابة لإلحاح أهله أو التزاماً اضطرارياً لضغط المجتمع ومتطلباته فالعقل الإنساني والعواطف الإنسانية لا يمكن اغتصابها وإنما يمكن إثارتها واستنفارها بوسائل متنوعة ليندفع الفرد تلقائياً...
إن الفاعلية الإنسانية في التعلم والعمل وفي كل النشاطات تأتي اندفاعاً بالصراع والمنافسة والتحدي والخوف والبحث عن التميز وكسب الاحترام والتوجس من الاحتقار كما تنبع الفاعلية من الكره والحقد والثأر أو بالرغبة العارمة والشغف المتأجج والايمان الراسخ والحب العميق فأثر المعلومات مرتهن بارتباطه بهذه العوامل المحركة لذلك فإن الفلاسفة منذ فجر الفكر الفلسفي الإغريقي وحتى الآن في تعليلهم لحركة التاريخ وتطور الحضارة قد ركزوا اهتمامهم على محركات الفكر والفعل ودوافع الإقدام والاحجام فرأي هيراقليط بأن فاعليات الإنسان مرتبطة بالصراع المثير الذي يستفز الطاقات الإنسانية فتتدفق تلقائياً إبداعاً أو تدميراً..
بل قبل هيراقليط فإننا حين نبحث في أسباب قبول اليونانيين للفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد رغم أنها طفرة معرفية نوعية غير مسبوقة ومناقضة كلياً للتلقائية واستجابتهم للمؤسس الأول طاليس نجد أن الصدمة القوية كانت خلف هذه الاستجابة الايجابية العامة فلقد استخدم معهم أسلوب الإدهاش المثير الذي زلزل تلقائية الانتظام في السائد فعن طريق الحساب استطاع أن يحدد موعد كسوف الشمس قبل حصوله بمدة طويلة فجاء الكسوف في الوقت الذي حدده كما حقق إنجازات أخرى خارقة مقنعة فاشتهر بأنه صاحب حكمة عظيمة ويملك رؤية ثاقبة فأدرك الناس في اليونان أن العقل البشري إذا خرج من تلقائيته البليدة فإنه قادر على النفاذ والاكتشاف والتحقق وأن الاستسلام التلقائي للتصورات المتوارثة تلقائياً يؤدي إلى تراكم تصورات خاطئة عن الكون والإنسان والحياة والوضع الإنساني وبذلك وثب اليونانيون إلى مستوى جديد من مستويات البصيرة والفهم والمعرفة والتنظيم والقيم والحضارة وهو مستوى خارق بل إنه طفرة نوعية لم تعهدها البشرية من قبل...
إن طاليس قد قام بثورة ثقافية جذرية كبرى أحدثت في الثقافة اليونانية تغيراً نوعياً في طريقة التفكير وفي التصورات والقيم والاهتمامات وفي مرجعيات المعرفة وكيفية تأسيسها وتكوينها وبنائها فقد أدت الاستجابة له إلى أن يصير الاهتمام بالفلسفة اهتماماً شعبياً عاماً فأحيط الفلاسفة في اليونان بتبجيل شديد وانتشر الحديث في المجتمع عن الحكمة وبرز عدد من الحكماء في طليعتهم الحكماء السبعة الذين يأتي في مقدمتهم طاليس نفسه ثم صولون وآخرون فلو خرج طاليس في بيئة ثقافية وسياسية واجتماعية مغلقة وقامعة لمر دون أن يستجاب له لكنها خصوبة البيئة المفتوحة فبالاستجابة له حدثت تلك النقلة الحضارية المدهشة ثم تتابع ظهور الفلاسفة وكانوا يتجادلون بعمق حول الطبيعة والإنسان والحقيقة ثم جاء المعلمون المتجولون بكل ما يحملون من إثارة واستفزاز واندمجوا في المجتمع وحركوا القابليات الإنسانية الخاملة وأشعلوا الاهتمام لدى الجميع بقضايا المعرفة والحقيقة والسياسة والإنسان وأججوا الجدل حول كل شيء وأيقظوا الأفراد لاستعادة فردياتهم التي كانت ذائبة في التيار العام...
كان الفلاسفة المتجولون يخطبون في الأماكن العامة ويتحدثون في ملتقيات الناس فأحدثوا رجة شديدة نتجت عنها خلخلة قوية في البنية الذهنية التلقائية لليونان فتهيأت العقول بأن تستجيب لفلسفة سقراط ثم لتلميذيه: افلاطون وأرسطو فاستعاد الإنسان ثقته بالعقل وبالحقيقة بعد الرجة الشديدة التي أحدثها السفسطائيون فوثق الإنسان بقدرته على بلوغ الحقيقة بعد أن ينفك من بلادة التلقائية ويلتزم بمنطق التوليد والفحص والتحقق لقد جسد سقراط دوراً ريادياً باهراً فكان صاحب الدور التأسيسي الأصيل وأنجز هو وتلامذته تأسيس الفكر الفلسفي المنهجي الحاسم فقد انتبه بأن الإنسان مهما طال عمره ومهما تعلم ضمن دائرة الثقافة المتوارثة السائدة فإنه يبقى مأسوراً بالانتظام التلقائي في مجالات الفكر والقيم والأوضاع والاهتمامات والسلوك حتى يستثار بتساؤلات محيرة مزلزلة تصدم مسلَّماته وبذلك تنكشف له حقيقة أوهامه وتتعرى أمامه هشاشة الأساس الذي قامت عليه بداهاته فيندفع تلقائياً باحثاً عن الحقيقة التي كانت محجوبة عنه بتلقائية التسليم التلقائي البليد فكل انتظام مستقر هو انتظام تلقائي فهو بنية صلدة متماسكة مشدودة بقوة إنها لا تتأثر إلا بما هو مزلزل قادر على خلخلة البنية القوية الراسخة..
لقد رأى سقراط بأن تحرير الإنسان من بلادة التلقائية المستحكمة ثم العمل على تكوين أفكار خلاقة وتشييد معارف ممحصة يشبه عمليات التزاوج والتلقيح والحمل والولادة فالإنسان يبقى مأخوذاً بما تشربه تلقائياً من البيئة وما انضاف إليه تعزيزاً وتأكيداً خلال مراحل العمر حتى يواجه بأسئلة مثيرة محرجة محيرة مزلزلة فيجد نفسه مندفعاً تلقائياً ليبحث عن الاجابات المقنعة متجاوزاً التلقائية وهذا يؤكد أنه من أجل الخروج من سجن التلقائية فإنه لابد من هزة فكرية قوية مزلزلة لينفصل الإنسان قسراً عن استسلامه التلقائي وبهذه المسافة الفاصلة بين الذهن ومحتواه يستطيع أن يضع تصوراته موضع التحليل والتمحيص والتحقق...
لقد كان سقراط رائداً عالمياً خارقاً مدهشاً فقد أحدثت أفكاره المثيرة وتساؤلاته المزلزلة ومنهجه التوليدي المحرج نقلة نوعية في التفكير اليوناني إن عمليات توليد الأفكار الخارقة وبناء المعارف الممحصة وخلخلة التلقائية البليدة التي نهض بها سقراط مع عوامل أخرى اجتماعية وثقافية وسياسية هي التي أنجبت تلك الطفرة الثقافية اليونانية الهائلة التي تميز بها القرن الخامس قبل الميلاد وما بعده لقد انجلت عمليات التوليد الفكري عن ولادة جديدة للعقل اليوناني وأنجبت أشهر عظماء الفلسفة من أمثال أفلاطون وأرسطو...
ولكن للجهالة التلقائية المتراكمة جذور عميقة وامتدادات راسخة وقوة متجددة وردود فعل عنيفة ومقاومة شرسة وفوران تلقائي كاسح فتأتي هجمتها صاعقة وقامعة ومدمرة فقد حورب الأثينيون من جيرانهم الاسبارطيين وتغلبت قوة الجهل المتراكة الصلدة التليدة على قوة العقل الهشة الطارئة فحكوم سقراط وأعدم ثم وقعت اليونان في قبضة الغزاة المقدونيين ثم صارت اليونان تابعة للرومان الذين نشروا الثقافة اليونانية في أوروبا ولكن ما أن توقف توليد الأفكار المزلزلة حتى عادت تلقائية الانتظام في السائد فدخلت اليونان في مرحلة انحدار شديد ثم صارت بعد أن اعتنقت الارثودكسية نموذجاً للانغلاق والتعصب ومقاومة التغيير ولكن انتقال التراث اليوناني إلى الرومان قد أتاح له فرصة الانتشار في أوروبا مما حماه من الاندثار غير أن عوامل كثيرة تضيق عنها المساحة هنا قد أطفأت هذه الشعلة العجيبة فدخلت أوروبا في عصورها المظلمة فعاشت ركوداً في العقل وتراجعاً في الفكر ورتابة في كل شيء لقد دخلت في سلسلة من القيود فسادت التلقائية المستحكمة قروناً متتالية حتى حصلت مرة أخرى رجات مزلزلة أدت إلى عودة الوعي الجياش الفاحص فراح هذا الوعي المستيقظ الحاد المصدوم يعيد فحص الأفكار والتصورات والمسلَّمات وذهب يبني معارفه وتصوراته وقيمه واهتماماته ومؤسساته بعناصر جديدة ورؤى مبتكرة قائمة على البحث والتحقق والتفنيد وعلى مقاومة التلقائية البليدة..
إن انكسار التلقائية المستحكمة البليدة قد أعاد للعقل الأوروبي دهشته التي كانت مطمورة بتلقائية السائد فليس من طبيعة الناس أفراداً ومجتمعات أن يتقبلوا ما يخالف المألوف إلا إذا تعرضوا لما يزيل تلقائيتهم الراسخة ويضطرهم للتفكير بمنهج جديد يتلاءم مع متطلبات ما هم فيه من أوضاع ضاغطة أما الأصل في التفكير البشري والسلوك فإنه الانتظام التلقائي في السائد حتى يتعرض لهزات عنيفة توقظه عنوة فيفيق من بلادة التلقائية المستحكمة ويضطر للتفكير خارج الصندوق المغلق...
ولكن الفكر العقلاني الفريد الذي انفردت به اليونان في ذلك العصر بل انفرد به جزء منها لأنها كانت منقسمة فكان الاسبارطيون ومعهم مدن أخرى مضادين للفكر الفلسفي وللممارسة الديمقراطية وللحريات الفردية وكانوا غارقين بثقافة عسكرية صارمة وهكذا كان الاثينيون محاطين بطوفان الإنغلاق الثقافي الذي كان يغمر الأرض كما كانوا مهددين من المجاورين الاسبارطيين ومن العالم كله ليس هذا فقط بل كانت تكبلهم الرواسب التلقائية في داخل الكثيرين منهم فلم يطل إشعاع الفكر الفلسفي بل عادت أوروبا إلى اسكات العقل وإطلاق صولات النقل فهجع العقل الأوروبي هجوعاً طويلاً وكان يفيق بين فترة وأخرى واحد من أفذاذ الفكر ولكنها تبقى أصواتاً ناشزة وسط الذوبان العام المريع غير أن بذور العقل الفلسفي كانت تتفاعل في التربة الأوروبية وكانت تتهيأ لتنطلق إشعاعاً باهراً يوقظ العقول ويحرك الطاقات ويعد بفجر جديد للحياة الإنسانية كلها..
لقد جوبه الأوروبين بالكثير من التحديات الكبرى التي أشعلت طاقاتهم من جديد فقد وجدت أوروبا أن الأتراك لا يكتفون بالاستيلاء على القسطنطينية ولكنهم يتقدمون نحو العمق الأوروبي ويصلون إلى أسوار فينا عاصمة الامبراطورية المقدسة فاهتزت أوروبا كلها اهتزازاً شديداً أعاد فيها طاقة العقل ومتطلبات المواجهة...
لقد كانت التحديات والإثارات والصدمات والرَّجات والصراعات متواترة وبالغة القوة فكانت كافية لخلخلة الانتظام التلقائي فصارت الاستجابات الإيجابية تتكاثر فظهر المغامرون الشجعان الذين فتحوا للعالم آفاقاً لم تكن تخطر على بال أحد في مجالات الفكر والفعل والاختراع والابداع لقد انطلق كولومبس في مغامرة مذهلة واكتشف أمريكا في رحلة خطيرة وطويلة ومثيرة مات فيها أكثر أعوانه ولكنه واصل المغامرة في إصرار مدهش وشجاعة نادرة فألهب بمغامرته الظافرة خيال الأوروبيين وراحوا يتحفزون للمغامرة والانطلاق في كل الآفاق..
ثم توالت الهزات الكبرى فانشق مارتن لوثر عن الكاثوليكية وأنشأ المذهب البروتستانتي وأيدته إمارات ألمانية فلم يكن الانشقاق مجرد رؤية فردية بل كان مذهباً مدعوماً بقوة سياسية قادرة على التحدي والمواجهة فنتجت عن هذا الانشقاق صراعات مروعة وحروب دامية وأيقظت أوروبا لإمكانات التفكير بأساليب جديدة ولم يكن الصراع المزلزل محصوراً بين المذاهب المسيحية بل ظهر الاتجاه الإنساني بواسطة بترارك أولاً ثم إراسموس وآخرين وأعلنت انجلترا الانفصال عن كنيسة روما واستقلت بكنيستها وأعلنت قانون السيادة فانقسمت أوروبا انقسامات حادة كانت بمثابة المخاض العسير الذي كان يبشر بولادة العقل الأوروبي الجديد بشكل باهر مختلف عن كل ما عرفته البشرية..
وصاحب هذا الغليان الشامل اختراع المطبعة وانتشار الكتب فانطلق الناس يقرأون بلهفة شديدة باحثين عن الحقيقة التائهة وسط الصراعات المريعة الدامية يضاف إلى كل ذلك أنه بينما الناس يبحثون عن الحقيقة وسط طوفان الادعاءات المتضاربة التي يتوهم فيها كل طرف أنه هو وحده يملك الحقيقة المطلقة فإذا كوبرنيكوس يعلن فجأة اكتشافه المزلزل بأن الأرض ليست هي مركز الكون وإنما هو كوكب صغير من الكواكب التي تدور حول الشمس ثم برهنه جاليلو الذي أسس العلم الحديث وفق منهجية جديدة تعتمد على التجريب والاختبار والتحقق فجاء هذا الاكتشاف الباهر المزلزل ليضاعف التساؤلات ويشكك بالبداهات ويقلب المعايير ويقيم البرهان على خداع الحس المباشر وعدم موثوقية البداهة التلقائية..
ثم زادت درجة الغليان الأوروبي بنجاح الثورة المجيدة في انجلترا التي قادها أوليفركرومويل فأعلنها جمهورية وظهر فرنسيس بيكون ناقداً السائد ومبشراً بمنهج جديد للعلم والعمل فأكد وجوب الكف عن ترديد أقوال الأسلاف عن الأشياء وطالب بالتوجه إلى الأشياء مباشرة لاستنطاقها عن ذاتها وتكوينها وعناصر وما تختزنه من طاقات وأسهم شكسبير وغيره من الأدباء إسهاماً كبيراً في بعث وعي جديد متسائل ثم ظهر ديكارت داعياً للتوقف بعمق أمام محتويات الذهن ووضعها تحت مجهر الفحص والتحليل والتحقق فأشع التنوير أولاً في انجلترا ثم بلغ أقصى مداه في فرنسا بواسطة فولتير وديدرو وروسو ومونتسكيو وغيرهم ثم انتقل إلى ألمانيا فحمل ليسنج مشعل التنوير وامتد الضياء إلى بقية القارة الأوروبية ثم انفجرت الثورة الأمريكية فتحررت من الحكم البريطاني ثم اندلعت الثورة الفرنسية محدثة دوياً هائلاً في كل الأنحاء فأعقبها اضطراب شديد مروع أدى إلى ظهور نابليون الذي سعى لتعميم الثورة وتوحيد أوروبا كلها تحت لواء واحد..
وتأمل هيجل هذا كله واستخلص من ذلك أن حركة التطور الإنساني محكومة بالديالكتيك فالصراع يؤدي إلى التكامل فيقضي ذلك إلى مركب جديد وجاء كارل ماركس وقلب مبدأ الجدل فادعى أن صراع الطبقات هو الذي يحرك المجتمعات وليس صراع الأفكار وظهر شوبنهاور معلناً أن الإنسان يتحرك بدافع ملح من داخله وأن أي بحث عن محرك خارج الذات هو عمى وضلال والتقط نيتشه هذه الفكرة فأعلن ان الإنسان مدفوع بإرادة القوة ثم جاء أرنولد تويني معلناً أن حركة التاريخ والحضارة محكومة بمنطق التحدي والاستجابة وبهذا كله يظهر أن تعميم التعليم في العالم هو أحد نتائج هذه التغيرات الكبرى الموقظة وليست التغيرات نتاج التعليم فالتعليم في كل مجتمع محكوم بالرؤية السائدة فيه ويتم حشده لتكريس هذه الرؤية وليس العكس كما هو متوهم...
هذه هي أبرز الرؤى والفلسفات حول حركة التاريخ وتطور الحضارة وكلها تؤكد بأن الانتظام هو الأصل وأن التغيير لا يمكن أن يتحقق إلا بتغيير الدوافع الداخلية ليتحرك الناس تلقائياً: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.