داهم الإبداع الروائي محمد حسن علوان في سن مبكرة فكانت (صوفيا) و(سقف الكفاية) و(طوق الطهارة) ورائعته الأخيرة (القندس) التي شكلت مرحلة تحول جديدة في تجربته الإبداعية، خصوصا بعد وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر حتى الآن، علوان ذلك الروائي الشاب انتزع أحقيته بموقع متقدم بين أبطال السرد في لغة الضاد، محققا بذلك حضورا لافتا في أفق المشهد الأدبي على مستوى المملكة والوطن العربي؛ نظرا لما يمتلكه من تقنيات سردية تنبع من خلالها أعمالا روائية زاخرة بالأحداث والمواقف والمشاهد التي تمنح المتلقي فسحة واسعة في القراءة والاستيعاب والتأمل. قصة ولادة النص: «عكاظ» بدورها سألت علوان عن قصة ولادة روايته (القندس)، فقال: رواية (القندس) هي الرواية الرابعة لي بصدورها عام (2011)، وتحكي قصة رجل سعودي تجاوز عقد الأربعينات بذاكرة مليئة بالوجع المتراكم خلال سنوات حياته منذ ولد في عائلة مفككة في الرياض. انفصل والداه وكون كل منهما أسرة وجد (غالب الوجزي) نفسه غريبا فيهما معا. شكلت هذه البدايات الصعبة في طفولته عوامل عزوفه عن الزواج في ما بعد ومحاولاته الدائبة لإيجاد جدوى لحياته في مختلف مراحلها. تحاول الراوية أيضا أن تعكس الظروف الاجتماعية للمدينة عبر ثلاثة أجيال من عائلة الوجزي تتقاطع فيما بينها في حالات مكررة. عندما فكرت في كتابة رواية كهذه، كنت مشغولا بهاجس الوجع النفسي الذي يعتمل في دواخل الكثيرين دون أن يجدوا فيه مبررا للكشف. إن الذين يتعرضون لحوادث حياتية ظاهرة كالموت والمرض يجدون فرصا مختلفة للتعاطف تتهافت عليهم دون أن يستدعوها، أما الذين تكبر أوجاعهم في صدورهم تدريجيا وعلى مدى سنوات، ثم لا يجدون حادثة اجتماعية تستقطب لهم تعاطفا مريحا ممن حولهم، يتحولون إلى أشخاص منفصلين عن محيطهم وناقمين عليه وعاجزين عن التصالح مع ما حولهم. غالب كان كذلك، لا يملك في حياته ما يصطاد به تعاطفا يسقي روحه اليابسة. خلف ابتعاد أمه في طفولته داخله فجوات واسعة يتسرب منها البرد طيلة حياته، ولكن نشأته في عائلة كبيرة وذات شأن جعلت أي محاولة منه للشكوى أو البوح تبدو ترفا لن ينخدع به أحد. ولقد تحمل غالب ذلك كله طيلة سنوات عمره مستعينا بسلوكٍ طارئ بعد سلوك، حتى داهمته الأربعون أخيرا وبدأت مناعته النفسية الواهية في التآكل مع أزمة منتصف العمر، فأصبحت مدينته بالنسبة له مكانا خانقا مليئا بذكريات الخيبة وعدم الإنجاز. كتبت فصولا من هذه الرواية أثناء إقامتي في الولاياتالمتحدة للدراسة ثم انقطعت عنها حتى سنحت لي فرصة المشاركة في ورشة الكتابة التي دعت إليها مؤسسة الإمارات، وجمعت فيه ثمانية من الكتاب العرب الشباب في جزيرة صير بني ياس التابعة لإمارة أبو ظبي. هناك أعدت صياغة محاور الرواية وكتبت فصولها الرئيسة، ولم ألبث بعد انتهاء الورشة أن وضعت اللمسات النهائية عليها على مهل حتى ختمتها أخيرا في كندا، غير بعيدٍ عن البلد الذي بدأت كتابتها فيه قبل ذلك بعامين تقريبا. من رواية القندس: سكبت لنفسي فنجانا آخر من قهوتي العربية بتحفظ. صنعتها هذا الصباح بلا قرنفل حتى أتعود طعمها صافيا دون أن يتدخل فيها أبي. كلما رشفت منها رشفة وأحرقني طعمه اللاذع شعرت بأن أبي يتسرب إلى دمي مثل مرض وراثي عنيد بدأت أشعر بأعراضه فعلا. يخرج أبي من فناجين القهوة أحيانا مثل مارد من البن ويداهمني ليلا ونهارا. رأيته في حلمي قبل أيام يتأمل صفا طويلا من الرجال يتقدمون نحو سريري في عرضة صاخبة وهم ينشدون: من سراة أبها نصف الصفوف وعند أبو غالب لفينا ضيوف ما تغيب غايب دون عذره يطلب العشرة.. ويفزع ألوف اخترقت دقات طبولهم وصرخاتهم العالية سريري المزدحم بالأحلام الرديئة. تقلبت بإصرار لعلهم يسقطون من حافته ولكنهم تشبثوا بنومي مثل الأقزام الذين يحاصرون العملاق. ترنحت في مشيتي نحو الحمام وأنا أدعك جبيني بعنف لأطرد نشيدهم الرتيب. سحقت بعضهم تحت قدمي بينما هم مستمرون في الرقص في غرفتي النائية في الدور الثاني من المبنى الذي كان مكتبا لشؤون المحاربين القدامى في الولاية قبل أن يقرر صاحبه تحويله إلى أربع شقق سكنية. استأجرت آخر شقة شاغرة منها لأجد كونرادو في الشقة المقابلة وأجهزته الكهربائية المعطلة تحتل نصف الفناء الصغير الذي نشترك فيه معا. كنت أعرف أني تجاوزت القدر الذي يمكن أن أشربه من القهوة دون أن ترتعش يدي مثل إبرة رادار قديم. مذاقها يمطر فمي حنينا حلوا وتفتح في داخلي أزقة من الأمان البعيد. ولكن الكارثة عندما ترسب بعد ذلك في جوفي أطنانا من القلق والتوتر وتشعل القرحة والأرق. لست بحاجة إلى مزيد من ذلك. يدور القلق في عروقي مثل سيارة سباق محمومة منذ ولادتي ولا يحتاج إلى تحريض إضافي من جرعة قهوة زائدة. رغم ذلك شربت أكثر من فنجانين وأنا أتأمل صفحة النهر الساكنة التي ابتلعت القندس ولم تبق له أثرا. فتحت في ذهني صفحتين للتفكير البارد: الأولى في قاع هذا النهر وكيف يبدو لو جف الماء تماما، والثانية في مذاق هذه القهوة وكيف تبدو بدون قرنفل. فقدت القدرة على التركيز فلم أجد مانعا من أن أقسم ذهني بين فكرتين تناوبت عليهما بفتور ومضغهما عقلي ببطء.