إخلاصه لمشروعه الروائي خلال عقد من الزمن يفرض على الجميع احترام تجربته، وها هي روايته الرابعة تؤكد هذا الإخلاص، وتقرر هذه التجربة الثرية الشابة، تجربة لم تطلها نشوة الإصدارات الحولية، لهذا جاءت رواياته بتأنٍ ودون عجلة فلقيت قبولًا عند جمهوره الذي ينتظره دومًا. بدأ ب (سقف الكفاية) في وقت لم تعتد الساحة على دخول الفتيان، فكانت صدمة الشيوخ، إلا أن غازي القصيبي- رحمه الله- احتفى به كعادته مع الأقلام الواعدة. أصدر بعد ذلك روايته (صوفيا)، تلك السيمفونية التي أجادت الحديث عن قدسية الموت، وعمق اللحظات الأخيرة، ورغم صغر حجمها إلا أنها كتبت بعمق مؤثر جدًّا، فتباينت الرؤى والانطباعات حوله، حتى ظهر ممسكًا بزمام الفن بعيدًا عن إغراق لغوي عاطفي ممل، لتصدر (طوق الطهارة) ليضفي على تجربته بعدًا آخر؛ لتتسع الدائرة قبولًا له. رواية (القندس) التي صدرت هذا العام هي آخر إصدارته، خرجت في 319 صفحة من القطع المتوسط، سردت الأحداث في أربعين فصلًا، اختار الكاتب هذه المرة العزف على الوتر الاجتماعي فانتقل بنا أثناء الأحداث بين قرار وجواب، متحدثًا عن غالب الذي اكتشف حقيقته وحقيقة عائلته بعد أربعين سنة «عندما شاهدت القندس أول مرة شعرت بالألفة» وهذه الألفة جعلت من حيوان القندس نواة يدور حولها السرد، ليتحول العالم فجأة أمام القارئ إلى عالم يعج بالقنادس، حتى أصبحت التصرفات والهيئات والمشاعر كلها تؤول إلى القندس بطريقة أو بأخرى، حتى ان السرد تأثر بصبغة قندسية غريبة، فتارة يكون كئيبًا كعينيّ القندس، وساخرًا كأسنانه، ومقززًا كمؤخرته، وحادًّا كمخالبه، وحذرًا كردة فعله، تُختزل أغلب شخوص العمل في القندس، لهذا شعر غالب بوحشة عندما غادره القندس «مبتعدًا بوداعه وهدوء، لتتبخر وجوه عائلتي في الفراغ، وينطفئ وراء جبيني مصباح الذاكرة». تصدمه الحقيقة فيظل ينتظر القندس ويرقبه، لأنه مدين له بهذه الحقيقة التي عرفها بعد عقود طويلة، لهذا افتقده وشعر بغيابه المقلق لأنه فقد واحدًا من أفراد عائلته «كان جدنا الأكبر قندسًا ولا شك.. كان عليّ أن أنتظر أكثر من أربعين سنة حتى أفهم عائلتي وأنا أصيد السمك على ضفة ويلامت» لهذا كانت التمرة الحلوة عربون وصال عربيًا. ينظر في سدود القندس المتناثرة، سدوده ذكرته بالبيوت التي عاش فيها، السدود التي بناها والده في الناصرية والمربع والفاخرية، السدود التي كلما يشتاق لها يداهم ساكنيها الغرباء لأنه يشتاق إلى سدوده القديمة، السدود لم تسلم من حالات تمرد «أمي القندس الوحيد الذي شذّ عن العائلة فملأنا فراغها بالأخشاب والأحزان القديمة»، ثم «منى القندس الذي انقلبت على النهر والعشب والأخشاب وهربت من البيت». كثرة أسفاره لم تجعله يستقل بسد خاص «القندس الذي يسافر كثيرًا لا يكتمل سده» لهذا يضجر من حوله من القنادس لأنهم «لا يتحملون رؤية قندس عار دون سد» يتضجر من الرياض التي تخلو من أنهار وحياة، فيفضّل الغربة والنوم في العراء! أحب غادة بطريقة مختلفة وهكذا هي القنادس، ودامت العلاقة أكثر من عقدين من الزمن، لم يرقص يومًا وذلك لأن القنادس «لا ترقص إلا إذا اكتمل السد» وهي نتيجة منطقية جدًّا، والسبب أن غادة ليست قندسًا مستقلًا ولن ترضى أن تعيش في سد حتى وإن حدث الاستقلال، وغالب لا يستطيع أن يعيش مع كائن ليس من فصيلته في سد واحد، والبرهان أنها عاشت معه شهرًا تمنى أن يتخلص منها ويخرجها من سده المؤقت! ضاع العمر وطال التصحّر غابة غالب، لقد قضى بقية حياته يبحث عن أنهار ليبني سدودا من وهم، لهذا تمنى أن يتحوّل إلى قندس حقيقي» أفكر أن أطلق لحيتي لتلتقي مع بقية شعر جسدي فأتحول إلى قندس حقيقي ثم أهجر شقتي، وأقفز في النهر بحثًا عن عائلة وسد» لكنه لم يحصِّل إلا الرتابة والصقيع فهو قندس موعودٌ بالكآبة والنبذ طالما أنه لم يبنِ سدًّا ولم يكن له قنادس صغيرة ومصيره أن «يبقى وحيدًا لا يوكل إليه قرض الأشجار ولا جمع الجذوع ولا حتى رعاية الصغار، إن الجميع ينتظره لكي يغرق في النهر» حتى إذا مات القندس الكبير» أخذ كل قندس نصيبه من قوت الشتاء والصيف وقرر أن يعيش ربيعه أخيرًا قبل أن يداهمه الخريف» فيذوي إلى الأبد. لقد تم توظيف القندس في هذه الرواية بشكل ذكي وظريف، القندس في هذه الرواية ذكرنا بسمكة همنغواي في (الشيخ والبحر) وبالكلب وردان في (حين تركنا الجسر). الرواية إلى منتصفها كانت متماسكة حتى دخلت عليها فصول مجانية لم تقدم شيئًا للحدث، مما سبب خلالًا في بنية النص، مثل الفصول التي تحدث فيها السارد عن دراسته الجامعية، وكذلك الفصول التي سردها ثابت عن الجد الذي هو أبعد ما يكون عن القندس. هذه الرواية تخلت عن الأنا المغرقة في العاطفة، إلى دائرة أوسع وأشمل على مستوى الشخوص، البطل لم يسلم من الترحيل حتى في هذه الرواية، أما بقية الشخوص فكان حضورها متفاوتًا بقدر كبير، فيحضر ثابت دون معنى للحضور، وتغيب منى التي انقلبت على النهر والعشب والأخشاب! الرواية لم تتكئ هذه المرة على اللغة الشعرية، فكانت اللغة بسيطة وخفيفة تناسب محور العمل، وهذا ما جعل الكاتب يمر بمأزق شديد، إذ إن القارئ اعتاد من الكاتب لغته الشعرية التي تميز بها في أعماله السابقة والتي كانت تشفع له كثيرًا من حيث التغاضي عن الحشو والترهل وبعض العيوب والزلات السردية، وهنا يصبح الكاتب عندما يتخلى عن لغته المعهودة مثل القندس بلا نهر وسد، يصبح مكشوفا في العراء. أما توظيفه للهجة العامية في الحوار فقد أجاده لولا الارتباك أحيانًا، فيدخل في اللهجة الحجازية ألفاظًا ليست من جنسها، أو يسوق الحوار أحيانا بالغة العربية الفصحى دون مبرر! ورغم هذا فكون التجربة خاضت موضوعات متعددة، وألونًا من السرد فهذا في صالح الكاتب وهو ممّا يسهم في نضج وإثراء التجربة السردية. أخيرًا: الرواية جديرة بالقراءة، والروائي يستحق الاحتفاء والإشادة بمشروعه الذي اخلص له، وهو نموذج نادر للروائي الشاب في الساحة المحلية.