(قد هدني جزعي عليك وأدعي ... أني غداة البين، غير جزوع)!! ما نسميه في حياتنا تجلدا وقوة تحمل وكتمانا أو غير ذلك من صور إخفاء حقيقة شعورنا المتألم، ما هو في الواقع إلا نوع من أنواع الكذب.. الكذب على أنفسنا والكذب على غيرنا. فالكذب في حياتنا يتخذ أحيانا شكل محطة للراحة والتخفف من ثقل آلام الحقيقة؛ لذلك يقبل الجميع على اكتساء الكذب إلا ما رحم ربي، فالساسة يكذبون في تصريحاتهم، لكنهم يسمون كذبهم ديبلوماسية تقتضيها الحكمة والدهاء. والروائيون والشعراء يكذبون في كتاباتهم، لكنهم يقولون عن كذبهم خيالا وإبداعا. والإعلاميون يكذبون في برامجهم ويزيفون الحقائق فيما ينقلونه من أخبار، لكنهم ينسبون ذلك إلى متطلبات المصلحة العامة. والتربويون يكذبون على التلاميذ ويخفون عنهم بعض الحقائق والمعارف، لكنهم يصفون كذبهم بأنه حراسة للأخلاق وحفظ للفضائل. والتجار يكذبون في إعلاناتهم فيصورون بضائعهم أفضل بكثير مما هي عليه في حقيقتها، لكنهم يعدون كذبهم مهارة وذكاء في التسويق. والأزواج يكذبون فيما بينهم ويسمون كذبهم (تسليك) للحياة الزوجية. والأصدقاء يكذبون على بعضهم البعض ويصفون كذبهم بأنه مجاملة وأدب اجتماعي. الجميع يكذبون.. يتنفسون كذبا ويحتسون كذبا ولا أحد يصدق أحدا؛ لأن الجميع يعلمون أنهم يعيشون عالما من الكذب. هل الكذب إحدى ضرورات الحياة؟ حين يجاملنا ضيفنا فيخبرنا أن الطعام كان لذيذا، ونحن نعلم أن كمية ملح الطعام كانت زائدة، لكنه لرقته لم يرِد جرح مشاعرنا، هل نعد كذبه هذا ضرورة؟ في كثير من المرات نحن ندرك أن الناس يكذبون علينا، لكنا لا نمانع في ذلك، بل إن كذبهم أحيانا يسرنا، وربما نجد في سماعه راحة أكثر من لو أنهم صدقونا، فالطعام الذي كان ملحه زائدا بما يفقده لذته، لو أن الضيف أخبرنا أنه لم يستطع ابتلاعه لأصابنا الكدر وشعرنا بالضيق، رغم أننا نعرف الحقيقة ونقر بأن زيادة ملح الطعام أفسدت مذاقه!! نحن في فطرتنا خلقنا نحب ما يسرنا ونكره ما يكدرنا؛ لذلك نحن نحب أن يكذب علينا متى كانت الحقيقة تكدرنا وكان في الكذب ما يسرنا!! المتنبي أعلن ذلك للملأ.. هو يخبرنا كيف أنه فر من كدر الصدق إلى وهم الكذب الذي يحمل له الراحة من ألم خبر أفزعه وأحرق قلبه، يقول في قصيدته الشهيرة التي يرثي فيها أخت سيف الدولة، والتي يقال إن المتنبي كان يحبها: طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا ... شرقت بالدمع، حتى كاد يشرق بي لجوء الإنسان إلى الكذب على ذاته ورفضه الاعتراف بمصيبة يحرق قلبه وقوعها هي حقيقة علمية رصدها علماء النفس، فحسب مراحل التكيف النفسي الخمس التي يمر بها الإنسان قبل أن يعود إلى طبيعته إثر كارثة حلت به، نجد الإنكار والتكذيب يأتي في مقدمة تلك المراحل، وذلك قبل أن تهدأ نفس المصاب ليدرك بعين الواقع المأساة التي حلت به، فينتقل إلى المرحلة الأخرى مرحلة الالتحاف بالحزن. فاكس 4555382-1 للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ,636250 موبايلي, 737701 زين تبدأ بالرمز 160 مسافة ثم الرسالة