جميل أن نهتبل البعد التأريخي فنجعل منه فرصا ورصيدا ثرا للحراك الثقافي المعاصر، وجميل أن نعيد الحياة للمعالم التأريخية ومنها الأسواق التي كانت تغشاها العرب فتبتاع وتتعارف وتنشد وتتآلف وتتعاهد وتتحالف، والأجمل أن يكون الاختيار (سوق عكاظ) لما له من شهرة ومكانة دعت الملك فيصل إلى تكليف بن بليهد والجاسر وغيرهما من الباحثين لتحديد مكان السوق الجغرافي، ثم أتم نجله (خالد الفيصل) الشاعر والأديب المهمة، فأحيا هذا السوق بعد أن كان رسما محيلا في أضابير التاريخ وأثرا مشوها عند بعضهم ظنا منهم أنه سوق جاهلي فحسب، وأخرجه (الفيصل) من دائرة الذاكرة التاريخية والتراثية إلى الواقع المشاهد، وهذه فرصة أخرى، فأضحى السوق موسما ثقافيا معرفيا يمور بالحياة لأيام، لا يهدأ حراكه خلالها ولا يتوقف نشاطه وهو يصافح عامه السادس، يحوي صنوفا من الفعاليات، ومن أبرز الفرص كذلك أن هذه الجهود تقوم على مرتكزات تراثية وتاريخية ومعرفية تخلق من هذه التظاهرة السنوية قدرة على الديمومة الفاعلة وعدم الاستكانة إلى تكرار البرامج والفعاليات في كل عام، غير أن هذه الفرصة تنقلب لتكون تحديا تواجه القائمين عليه؛ لأن التطوير المنهجي والمساري لأي عمل لا يمر عندنا بسهولة فثمة إشكالات وعوائق تقف في طريقه ولا يتجاوزها إلا إذا كانت المغايرة والتطوير شهوة راسخة لدى المسؤولين عنه، وأحسبهم كذلك، وهناك تحديات أخرى قد تكون خفية تحتاج إلى استحضار حقيقي ليكتمل استثمار الفرص، ومن أبرزها كيفية الخروج من سيادة النموذج (الجنادري) الذي أتيحت له الفرصة للحياة المعاصرة قبل (سوق عكاظ) بعشرين عاما، وهذا الخروج يستدعي استحضار التنوع بدل التنميط والتعدد والاختلاف بدل التمركز، وتقديم إنجاز نوعي يتجاوز حدود التفاعل اللحظي (ثلاثة أيام سنويا) ويقدم شهادة حضارية معبرة عن أصالة السوق، وهذا أيضا يستدعي إحداث تنوع وخصوبة ثقافية مع عمق خبرة ليبقى السوق حيا على مدار العام ومزارا للأجيال بمسابقات شهرية وحوارات موسمية ولقاءات ومساجلات ومسامرات أسبوعية ليبقى سوقا يؤمه النشء ويرتاده رجال الأعمال ويغشاه السياح على مدار العام، دون أن تنطفئ أنواره بعد انتهاء احتفالاته السنوية كما الجنادرية، ومن التحديات أن يكون (السوق) مكانا للسوق الحر والتراثي ومنبرا للموهبين والمبدعين من الشعراء والرواة والأدباء يلجأ إليه كل من يريد أن يرفه عن حواسه من عالمه الجديب المجهد ليستنشق من هذا السوق نسيم التراث ويبصر أعذاق الأدب اليانعة ويسمع شدو المبدعين من أبنائنا في ليالٍ زاهرة تعبر القرون بحوانيت سامرة، وإيوانات ساهرة وإن لم يغشها إلا القليل، وهذه المناشط يمكن أن تغذيها المؤسسات الأدبية في المملكة، فتحيل كثيرا من مناشطها وفعالياتها إلى مقر السوق؛ لأنها لن تعدم مستمعا لاسيما إذا كان للإعلام حضوره المؤثر وقام بدوره المأمول، وأخيرا فإن (سوق عكاظ) نافذة تاريخية وثقافية يسعد بها مواطنو هذا البلد وهو يبل صدى من لم يجد ظهرا من أهل مكة لحضور الجنادرية. وألقاكم. رئيس نادي جدة الأدبي. [email protected]