نوه عدد من المثقفين ورجالات الإعلام والأدب والفكر والتاريخ بما وصلت إليه المملكة العربية السعودية من مكانة مرموقة تتمثل في رعاية الثقافة والأدب بجميع صورها وأشكالها، ويأتي في باكورة هذه المساعي والمجهودت إعادتها للعرب أشهر أسواقها على مر التاريخ، وهو سوق عكاظ التاريخي القابع بمنطقة العرفاء بمحافظة الطائف، بعد انقطاع استمر حوالي 1300 سنة، حيث شدّد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يحفظه الله وبتوجيهاته السديدة لضرورة رعاية مثل هذا الإرث الثقافي التاريخي، ليس فقط للمملكة، بل للعرب، حيث شهد السوق ولادته المتجدّدة في نسخته الأولى عام 1428ه التي دشن فعالياتها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة بحضور نخبة من رجالات الثقافة والتاريخ والأدب والتراث والمهتمين بمختلف الفنون والتراث الشعبي والحرف اليدوية، حيث عاد هذا السوق بفضل هذه الرعاية إلى مجده وسابق عهده.
حفظ تاريخ الحضارة أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الملك عبدالعزيز الدكتور عبدالله بن سراج بن عمر منسي أكد أن سوق عكاظ الذي انطلق في نسخته الخامسة تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يوم أمس الثاني والعشرين من شوال الجاري، ما هو إلا حفظ لتاريخ حضارتنا العربية والتعريف بالنهضة الثقافية التي تعيشها المملكة، مشيرًا إلى أن هذه التظاهرة إبراز حقيقي للطفرة الحضارية وخارطة لمستقبل الموروث العربي بفضل مساعي الدولة وجهودها لإعادة وهج هذا التجمع التاريخي والثقافي والتجاري بعد توقف دام أكثر من 1300 سنة إلى أن صار يشهد الإقبال الكبير من الشعراء والمبدعين والمهتمين بالتراث والثقافة من داخل المملكة وخارجها. وذكر أن فكرة إعادة السوق إلى هذا الشكل الحالي مجهود كبير يستحق التقدير، حيث إنه كان ولا يزال يحتل مكانة في نفوس العرب، فما شاهدناه من معارض متنوعة وبرامج وفعاليات وتواجد كبير من قبل الزوار بلا شك لهو دليل على الأهمية التي يحظى بها السوق، متمنيًا أن يتمخض عن اهتمام المسؤولين بالسوق في أن يصبح ملتقى عالميًا ورمزًا ثقافيًا ووجهة سياحية يقصدها الزوار والمصطافون خلال زيارتهم للطائف المأنوس وللمملكة بشكل عام. وعدّ الدكتور منسي السوق منبرًا حضاريًا لجميع العرب الذين ارتبطت الفنون الأدبية لديهم باسم سوق عكاظ وبشكله الحالي والتطوير الذي يُخطط له مستقبلًا بمثابة نموذج للسياحة الثقافية والتراثية التي تستحوذ على نسبة مرتفعة عالميًا من إقبال السياح مقارنة بالأنماط السياحية الأخرى وإقامة هذه التظاهرة في الموقع الفعلي للسوق يعطي للفعالية حضورًا وميزة تختلف تمامًا عن باقي الأنشطة والبرامج الثقافية على مستوى الوطن العربي. منبر ثقافي وفكري المشرف العام على فرع وزارة الثقافة والإعلام بمنطقة مكةالمكرمة سعود بن علي الشيخي أوضح أن سوق عكاظ بفضل الرعاية والاهتمام والمتابعة من قبل صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة رئيس اللجنة الإشرافية العليا للسوق يعد تجسيدًا لمكانة الثقافة على أرض المملكة وتهيئة البيئة المناسبة لاحتضانها والحفاظ عليها، مشيرًا إلى أن هذا الاهتمام ليس بغريب على شخص الأمير خالد الفيصل، فهو رجل الثقافة والأدب والشعر، معتبرًا أن إحياء سوق عكاظ يعد إضافة للحراك الثقافي وتعزيزا ما وصلت إليه الحركة الثقافية بالمملكة من نضج وازدهار مما ساعد في تهيئة البيئة الخصبة والمناخ الملائم لتألقها وتعديها الحدود المحلية والعربية لتصل إلى العالمية. وأكد الشيخي أن سوق عكاظ وفي ظل هذا الاهتمام يتألق في عرض تلك الحقب التاريخية التي عاشها العرب والمليئة بنماذج عطرة من التراث والأدب والفكر في ظل الحرص والمجهودات المتواصلة من الجهات المعنية وتقديم كل ما من شأنه يدفع بمسيرة الثقافة والوعي والأدب إيمانًا من الجميع بالقيمة الثقافية الريادية لسوق عكاظ وما يمكن أن يمثله السوق للحركة الثقافية والأدبية في هذا الوطن، مشيرًا إلى دور المملكة في تطوير الثقافة والارتقاء بها والحفاظ على القيم والمعطيات التي تتمشى مع التعاليم الدينية والقيم الأصيلة وإثراء الحركة الأدبية والثقافية بما يعود بالنفع والفائدة على مواطني هذه البلاد خاصة والعالم العربي قاطبة. وشدّد على أن وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة عضو اللجنة الإشرافية العليا لسوق عكاظ يعي الدور الكبير الذي تقوم به المملكة في الحفاظ على مقوماتها الثقافية التي تعتبر في مقدمة اهتماماتها فهذا السوق، فهو بمثابة التعريف بدور المملكة الريادي في نشر الثقافة والاهتمام بها والتعريف بعناصر قوتها وشموخها وأن السوق وهو يترجم النهضة الثقافية في المملكة يعتبر إبرازا حقيقيا للطفرة الحضارية التي تعيشها والتقدم الذي تمشي في ركابه على جميع الأصعدة والمستويات والذي تألق باهتمامات كل من يحمل هموم الحفاظ على الثقافة والتراث الزاخر الذي تنعم بها المملكة. ملتقى جديد للشعراء اعتبر الشاعر والأديب الدكتور عبدالإله بن محمد جدع أن سوق عكاظ أُعيدت إليه الحياة ليكون ملتقى للشعراء في العصر الحاضر، كما كان لهم سابقًا، حيث ساهم في إخراج عدد من الأسماء والقصائد الشعرية الكبيرة في تاريخ الأدب العربي، وهناك كانوا يتبايعون ويتعاكظون ويتفاخرون ويتحاججون وينشد الشعراء ما تجدّد لهم وقد كثر ذلك في أشعارهم كقول حسان: «سأنشرُ إن حييتُ لهم كلامًا يُنشرُ في المجامع من عكاظ»، وممن برز فيه وعلا فيه شأنه النابغة الذبياني الذي ترأس سوق عكاظ وفي ذلك يقول الأصمع: «كان النابغة يُضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها». وأشاد جدع باهتمام المملكة بإحياء هذا السوق الذي يعود لما اشتهر به لدى العرب كأهم أسواق العرب وأشهرها على الإطلاق، حيث كانت القبائل تجتمع فيه شهرًا من كل سنة يتناشدون الشعر ويفاخر بعضهم بعضًا، ولم يكن سوق عكاظ مكانًا ينشد فيه الشعر فحسب، بل كان أيضًا موسمًا اجتماعًا قبائليًا له دوره السياسي والاجتماعي الكبير، فقد مثّل عكاظ لقبائل العرب تجمعًا لشيوخ القبائل بعشائرهم وتعقد فيه مواثيق وتنقض فيه أخرى، كما كان السوق مضمارًا لسباقات الفروسية وسوقًا تجاريًا واسعًا تقصده قوافل التجار القادمين من الشام وفارس والروم واليمن ومنتدى تطلق فيه الألقاب على الشعراء والفرسان والقبائل وغير ذلك. وأعرب الشاعر جدع عن تطلعه إلى استمرار فعاليات سوق عكاظ على مدار العام وأن يكون سوق عكاظ أميز تظاهرة ثقافية على مستوى العالم لأن سياحة الثقافة والتراث أصبحت اليوم من أهم عناصر الجذب السياحي في معظم دول العالم والمملكة هي في هذا المستوى للمقومات الضخمة والإمكانات التي تمتلكها في هذا المجال مما شكلت رافدًا مهمًا من روافد صناعة السياحة في المملكة، وطالب بأن تصنع الأجيال تاريخها ولا تتكئ على أمجاد الآباء والأجداد، ومشيرًا إلى أن من يزر عكاظ في كل عام يلحظ أن هناك بونًا شاسعًا في الجوانب التنظيمية والتجهيزات وإذا كان مستوى التنظيم والتغيير والتحديث على هذا المنوال أجزم أنه بعد سنوات قليلة سوف يصبح عكاظ ليس عربيًا وربما عالميًا وهذا ما يطمح له الأمير خالد الفيصل. موسم اجتماعي وقبائلي وقف أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الملك عبدالعزيز الدكتور محمد صالح عبدالله الطاسان على تاريخ ونشأة السوق قائلًا: يعود تاريخ سوق عكاظ إلى ثلاثة أو أربعة قرون قبل الميلاد واستمر في عهد النبوة وصدر الإسلام أيام الخلفاء الراشدين وزمن بني أمية حتى عام 129ه عندما ثار عليه الخوارج ونهبوه إلى جانب توسع الدول الإسلامية وانتقال مراكز الحضارة من الحجاز إلى دمشق ثم بغداد حيث المدن الكبيرة كما بدأت الحياة الجديدة في الشام والعراق ومصر تجذب الناس إليها مع الاهتمام بالفتوحات مما أضعف الحاجة لسوق عكاظ ودوره التجاري خاصة. وأشار إلى إسهام سوق عكاظ الذي تم اكتشاف موقعه بعد البحث والتنقيب فوُجد في منطقة ما بين الطائف وجبل حضن ويبعد عن الطائف قرابة 45 كم وعن جبل حضن قرابة 55 كم كونه ملتقى للشعراء وحاضنًا لهم في إخراج عدد من الأسماء والقصائد الشعرية الكبيرة في تاريخ الأدب العربي وممن برز فيه وعلا فيه شأنه النابغة الذبياني. وأضاف: أن سكان السوق الأوائل هم قبيلة هوازن وعدوان التي قيل عنها ذو الإصبع العدواني أحد المعنيين بالسوق. ولم يكن سوق عكاظ مكانًا ينشد فيه الشعر فحسب بل كان أيضًا موسمًا اجتماعًا قبائليًا له دوره السياسي والاجتماعي الكبير، فقد مثّل عكاظ لقبائل العرب منبرًا إعلاميًا يجتمع فيه شيوخ القبائل بعشائرهم وتعقد فيه مواثيق وتنقض فيه أخرى كما كان مضمارًا لسباقات الفروسية والبراز وسوقًا تجاريًا واسعًا تقصده قوافل التجار القادمين من الشام وفارس والروم واليمن ومنتدى تطلق فيه الألقاب على الشعراء والفرسان والقبائل وغير ذلك ومنبرًا خطابيًا تقال فيه الخطب وينصت له الناس ومجلسًا للحكمة تحفظ فيه الحكم وتسير بها الركبان ويتمثل بها الناس وقد زار الرسول صلى الله عليه السوق مع أعمامه محاربًا متشوقًا وبعد نزول الوحي عليه داعيًا إلى الله. وأفاد أن سوق عكاظ اشتهر عند العرب كأهم أسواقهم وأشهرها على الإطلاق وكانت القبائل تجتمع في هذا السوق شهرًا من كل سنة يتناشدون الشعر ويفاخر بعضهم بعضًا وسمي بعكاظ لأن العرب كانت تجتمع به ويعكظ بعضهم بعضا بالشعر والمفاخرة، وتأتي أهميته اليوم وهو يشهد نسخته الخامسة في كونه ملتقى شعريًا وفنيًا وتاريخيًا فريدًا من نوعه يقصده المثقفون والمهتمون بشؤون الأدب والثقافة آنسين بالعروض الشعبية الأصيلة ومنصتين إلى الكلمة الشاعرية العذبة ومستمتعين بالقيمة المعرفية والثقافية التي يقدمها السوق من خلال ندواته ومحاضراته وفعالياته وتنوع أنشطته لتقدم للزائر مهرجانًا ثريًا في محتواه وهو بهذا الحراك يعيد تأصيل القيم الأخلاقية والتاريخية والثقافية. تأصيل للقيم الأخلاقية أستاذ الإعلام بجامعة الملك عبدالعزيز الدكتور عبدالرحمن بن محمد الحبيب تناول دور وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة في التواجد بسوق عكاظ منذ افتتاحه وحتى اختتام فعالياته لنقله بالصورة التي تدلل على اهتمام المملكة بهذا الحدث، ليس على المستوى المحلي بل العربي، لأن عكاظ يمثّل التاريخ ويمثّل الماضي ويترجم النهضة الثقافية في المملكة ويجسّد مكانة الثقافة على أرضها، مشيرًا إلى أن المملكة تهيئ البيئة المناسبة لاحتضان الثقافة وإبراز الموروث الحضاري والحفاظ عليه، حيث رأت القيادة الرشيدة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود ضرورة إعادة إحياء هذا السوق الذي يعد إضافة للحراك الثقافي ودلالة على ما وصلت إليه الحركة الثقافية بالمملكة من نضج وازدهار وتقدم. ولفت الدكتور الحبيب إلى أن الزائر للسوق يجد مفارقة تجمع بين التقنيات الحديثة التي تم توفيرها في مكان المهرجان مع جغرافية المكان وقيمته التاريخية الأصيلة التي تم تحديدها بعد دراسة الآثار المتاحة وتحديد الأودية والجبال وفق الوثائق المدروسة بعناية لتحديد موقع السوق بدقة وبكفاءة علمية، وتأتي أهمية سوق عكاظ اليوم في كونه ملتقى شعريًا وفنيًا وتاريخيًا يقصده المثقفون والمهتمون بشؤون الأدب والثقافة. وذكر أن سوق عكاظ يعيد تأصيل القيم الأخلاقية والتاريخية والثقافية لدى العرب باتصاله بسوق عكاظ التاريخي الذي مثّل هذا الدور لدى العرب وقبائلها، كما يعيد السوق إلى الأذهان أمجاد العرب وتراثهم الأصيل ويستعرض ما حفظه ديوان العرب من عيون الشعر ومعلقاته ويقدم في كل مهرجان احتفالًا واحتفاءً بأحد شعراء المعلقات لتؤكد اتصال التراث بالحاضر وتجدد المحافظة على الماضي وما حفل به من تاريخ وأحداث وأمجاد، مضيفًا أن الاهتمام الكبير بالجانب التراثي في جميع مناطق المملكة هو ديدن الحكومة السعودية وعلى الأدباء والمثقفين الاهتمام بهذا الجانب المهم الذي يعكس الصورة الحقيقية لهذا السوق لجعله معلمًا وكيانًا ثقافيًا وحضاريًا دائمًا للعرب على مر العصور.