من مِن الشعراء لا يريد أن تكون أغراض شعره نزيهة متسقة مع ما جاء في قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) الشعراء : 244 227 .. لا شك أن من تزكى من هؤلاء الشعراء لنفسه وأقلع عن فحش القول والتشبيب الحسي وغير ذلك من الأغراض الفاسدة التي تدعو إلى الرذيلة وتنأى عن الفضيلة.. لا شك أنه سيكون في أمن من شر نفسه وشر شيطان شعره، أو كما يقول أحمد شوقي: والنفس من خيرها في خير معتصم والنفس من شرها في مرتع وخم !. ولعل هذا المعنى هو ما قصده عمر أبو ريشة في قصيدته التي ألقاها في موسم حج 1393ه ومطلعها: أنا في موئل النبوة يا دنيا قطعت منك حبائل الشيطان!. ونحن حينما نقف أمام قصيدة «بانت سعاد» لكعب بن زهير التي بدأها بالنسيب ثم عرج على غرضه وهو طلب العفو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجد هذا المعنى أيضا في قوله: نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول إلى أن قال فأبدع: إن الرسول النور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول فخلع النبي صلى الله عليه وسلم بردته عليه. وليس من باب الاستطراد الإشارة إلى أن الدراسات النقدية والأدبية حول هذه القصيدة زادت على أكثر من ثلاثمائة دراسة في تاريخ أدبنا العربي والإسلامي. كما أن عددا من الشعراء عارضوها وفي مقدمتهم البوصيري في بردته التي يقول فيها: إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول في كل يوم ترجى أن يكون غدا وعند عزمك بالتسويف محلول كل غدا وله من جنسه رصد للجنِ شهب وللإنسان سجيل وإعلاميا، يجد الباحث في صدر الإسلام أن الشعر كان هو الوسيلة الإعلامية الكبرى.. وقد توفرت لها الرسالة والجمهور والصدى المدوي.. فلم تخب جذوة الشعر إبان البعثة النبوية. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع أحيانا إلى الشعر الجاهلي وينشد بعضه غير كامل وغير صحيح الوزن، لأنه لا ينبغي له قول الشعر كما قال تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) يس: 69 .. وحينما استمع عليه أفضل الصلاة والسلام إلى شعر أمية بن أبي الصلت قال: «آمن لسانه وكفر قلبه». وكان يقول: «أصدق كلمة قالها لبيد: ألا كل ما خلا الله باطل» ... وقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الشعر كلام من كلام العرب جزل، تتكلم به في نواديها وتسل به الضغائن بينها» . فمعنى ذلك أنه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم كان ذا ذائقة نقدية تميز الغث من السمين في الشعر. وليس أدل من أن الشعر كان السلاح الإعلامي الفعال المؤثر في عصر النبوة، (صدر الإسلام) من موقف حسان بن ثابت رضي الله عنه حينما أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبا سفيان بن الحارث هجاك وأسعده على ذلك نوفل بن الحارث وكفار قريش، أفتأذن لي أن أهجوهم يا رسول الله؟، فقال له: «أهجهم وروح القدس معك، واستعن بأبي بكر فإنه علامة قريش بأنساب العرب» ، فقال حسان يهجو نوفل بن الحارث بقصيدة منها: وإن ولاة المجد من آل هاشم بنو بيت مخزوم ووالدك العبد وما ولدت أبناء زهرة منهم حميما ولم يلحق عجائزك المجد فأنت لئيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الركب القدح الفرد ويعتبر حسان بن ثابت الشاعر السياسي للرسول صلى الله عليه وسلم ومعه كعب بن مالك وعبد الله بن أبي رواحة رضي الله عنهما.. وقد أبقى الإسلام على غرض الهجاء في الشعر وشجعه للدفاع عن الإسلام والمنافحة عن الدعوة الجديدة، وهجاء خصوم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول لحسان: «أهج قريشا فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام، أهجهم ومعك روح القدس، وألق أبابكر يعلمك تلك الهنات» . وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم في حسان وفي كعب بن مالك وفي ابن ابي رواحة: "هؤلاء النفر أشد على قريش من نضح النبل». وليس معنى التصريح بهجو المشركين من قريش إطلاق عناق القول لهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الشعراء المسلمين ويوجههم ويرشدهم في طريقة صقل الشعر وتهذيبه، حيث نهاهم عن التعرض لأعراض القرشيين أو الانتقاص من أحسابهم.. فالهدف هو تناول فنون الشعر ومنها الهجاء من زاوية تعاليم القرآن الكريم وآياته.. فلم يعد الشاعر يفخر بكثرة العدد وقوة العدة وكسب المغنم وسبي العدو، بقدر ما أصبح يفخر بنيل الشهادة في سبيل الله وانتصار جنود المسلمين وكسب رضا الله والفوز بالجنة. فالقيم الإسلامية حولت أغراض الشعر الجاهلي إلى مبادئ للعقيدة فأخذت القدرات الذاتية للشعراء تنمو وترتقي سموا في المدلول الإيماني للكلمة الشعرية حتى العصر الحديث.. فها هو أحمد شوقي «أمير الشعراء» يقول في قصيدة «ولد الهدى»: ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء إلى قوله: بك يا ابن عبدالله قامت سمحة في الكون من ملل الهدى غراء بنيت على التوحيد وهو حقيقة نادى بها سقراط والقدماء ويحلق في أروع تحليق له في قصيدة «سلوا قلبي» فيقول: أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا مدحت المالكين فزدت قدرا وحين مدحتك اقتدت السحابا .. ولعل من أروع ما يمكن أن نختم به هذه المقالة قول أحد الشعراء: يا خير من سكنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف والجود والكرم .. وهذان البيتان مكتوبان على الاسطوانتين أو العمودين المواجهين للقبر النبوي الشريف في المدينةالمنورة.. ونفسنا جميعا الفداء وأمهاتنا وآباؤنا له صلى الله عليه وسلم.