من المعروف أن ابتياع قريش لخشب تلك السفينة كان بغرض إعادة بناء الكعبة المشرفة للمرة الثامنة وكان ذلك في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام بقليل وشارك النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك البناء قبل الرسالة. وعندما شعّ نور الإسلام في مكةالمكرمة وظهرت أعظم رسالة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، كانت جُدة عندئذٍ هي خزانة مكةالمكرمة ومستودعًا لقريش وكانت معروفة وآهلة وإن كنا لا نعرف عدد سكانها آنذاك على وجه الدقة. وتعطي بعض المصادر مؤشرات ودلائل لذلك، فعلى سبيل المثال يقول الأستاذ محمد صادق دياب -رحمه الله- في كتابه الشهير (جُدة التاريخ والحياة الاجتماعية): "استمرت جُدة مرفأ مساعدًا لمكةالمكرمة إلى جانب الشعيبة ومستودعًا تجاريًا لقريش، وحينما أسر المسلمون في بدر، نوفل بن الحارث طلب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، من نوفل أن يفدي نفسه برماحه التي بجُدة وكانت ألف رمح" (12). نوفل بن الحارث يفدي نفسه برماحه التي كان يخزنها في جدة: في ترجمة لحياة الصحابي الجليل نوفل بن الحارث رضي الله عنه، أورد ابن سعد (المتوفى سنة 230ه) في "الطبقات" قصة افتداء نوفل نفسه برماحه التي كان يخزنها في جدة عندما أسره المسلمون في بدر وسننقل بعض ما ذكره ابن سعد بتصرف. عن هذا الحدث الهام يقول ابن سعد: نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي، وأمه غزية بنت قيس بن طريف بن عبدالعزى بن عامرْ بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر. وكان لنوفل بن الحارث من الولد الحارث، وبه كان يكنى وكان رجلًا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد صحبه وروى عنه ووُلد له على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ابنه عبدالله بن الحارث، وعبدالله بن نوفل وكان يُشبه بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو أول من ولي قضاء المدينةالمنورة، فقال أبو هريرة: هذا أول قاضٍ رأيته في الإسلام، وذلك في خلافة معاوية بن أبي سفيان". وينقل ابن سعد رواية هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال: لما أخرج المشركون من كان بمكة من بني هاشم إلى بدر كُرهًا كان فيهم نوفل بن الحارث فأنشأ يقول: حرام علىّ حرب أحمد إنني أرى أحمدًا مني قريبًا أواصره وإن تك فهر ألبتْ وتجمعتْ عليهِ فإن الله لا شك ناصره قال هشام وأما معروف بن الخربوذ فأنشد لنوفل بن الحارث: فقل لقريش ايلبى وتحزبي عليه فإن الله لا شك ناصِرهُ ثم يقول ابن سعد: قال: أخبرنا علي بن عيسى النوفلي عن أبيه عن عمه اسحق بن عبدالله بن الحارث عن عبدالله بن الحارث بن نوفل قال: لما أُسِرَ نوفل بن الحارث ببدر قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أفد نفسك يا نوفل، قال: ما لي شيء أفدي به نفسي يا رسول الله، قال: أفد نفسك برماحك التي بجُدة، قال: أشهد أنك رسول الله (لأنه لم يكن يعرف عن قصة الرماح أحد غيره). ففدى نفسه بها وكانت ألف رمح. وأسلم نوفل بن الحارث، وكان أسن من أسلم من بني هاشم. أسن من عمه حمزة والعباس. وأسن من أخوته ربيعة وأبي سفيان وعبد شمس بني الحارث. ورجع نوفل إلى مكة ثم هاجر هو والعباس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أيام الخندق (13). من هذه القصة يمكن الاستنتاج أن جُدة كانت معروفة وآهلة ويتاجر أهلها مع المكيين منذ فترة ما قبل الإسلام، وأن قريشًا كانت تستعملها مخزنًا لها. كما يمكن الاستنتاج من نفس الحدث كذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يعرفها. بل وكما سيأتي لاحقًا استعمل عليها الحارث بن نوفل بن الحارث (وهو ابن الصحابي الجليل نوفل بن الحارث صاحب الرماح التي كانت مخزنة في جُدة) كأول أمير عليها. فإذا كانت جُدة كما ذكرنا معروفة وآهلة زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم فكيف لا تكون كذلك في عهود خلفائه الراشدين من بعده، أبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين كما يقول البعض. وكدليل آخر على وجود جُدة وعمرانها وأهميتها في فترة صدر الإسلام يبين الأستاذ الدياب - رحمه الله- أن الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، (وقيل الخليفة أبوبكر الصديق، رضي الله عنه) عيّن أميرًا لها. يقول الدياب: "ويقال: أن الحارث بن نوفل (ابن الحارث)، رضي الله عنهما، هو أول أمير اُستعمِلَ على جُدة في الإسلام. وتتباين الأقوال حول زمن تلك الإمارة، فمنهم من كان يرجعها إلى عهد الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم من يردها إلى عهد أبوبكر الصديق، رضي الله عنه، (14). ولا شك أن خبر هذه الإمارة هو دليل آخر على أن جُدة كانت معروفة ومأهولة في صدر الإسلام منذ زمن الرسالة وفي عهود الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، بل وقبل ذلك. * ولاية الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب أميرًا على جُدة في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ولأهمية هذه الولاية في إثبات عمران جُدة وأنها كانت آهلة في عهد الرسالة وعصر الخلفاء الراشدين، نورد بعضًا مما قاله الفاسي عنها في (العقد الثمين)، أحد أهم المصادر التاريخية المكية. يقول المؤرخ المكي الشهير الإمام تقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاسي المكي المتوفي سنة 832ه: الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم الهاشمي: أمير مكة، فيما قيل. قال الواقدي: "كان الحارث بن نوفل على عهد رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، رجلًا، وأسلم عند إسلام أبيه نوفل". ويقول الفاسي -رحمه الله- أيضًا: وقال مصعب الزبيري: "صحب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وَوُلد له على عهده عبدالله بن الحارث الذي يقال له: ببه". ثم يستطرد الفاسي قائلًا: وقال غيرهما: ولي أبوبكر الصديق الحارث بن نوفل مكة، ثم انتقل إلى البصرة من المدينة. واختط بالبصرة دارًا في ولاية عبدالله بن عامر. ومات بها في آخر ولاية عثمان، رضي الله عنه. ثم يقول الفاسي: وقد تعقب ابن الأثير قول من قال: إن الصديق ولي الحارث هذا مكة، لأنه قال: قلت: قول ابن عمر: إن أبا بكر ولى الحارث مكة وهم منه، إنما كان الأمير بمكة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، عتاب بن أسيد على القول الصحيح. وإنما النبي، صلّى الله عليه وسلّم، استعمل الحارث على جُدة. فلهذا لم يشهد حنينًا، فعزله أبوبكر، رضي الله عنه، فلما ولي عثمان ولاه، ثم انتقل إلى البصرة. ويقول الفاسي -رحمه الله: أن الحارث بن نوفل روى عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وعن عائشة، وعنه ابنه عبدالله ، وحفيده الحارث بن عبدالله، وأبو مجلز لاحق بن حميد (15). وقد جاء في كتاب (الطبقات الكبرى) لابن سعد المتوفي سنة (230ه) ترجمة لحياة هذا الصحابي الجليل (الحارث بن نوفل) والذي كان أول أمير لجُدة أمره إياها رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم. يقول ابن سعد: "واستعمل، صلّى الله عليه وسلّم، الحارث بن نوفل على بعض أعمال مكة ثم ولاه أبوبكر وعمر وعثمان مكة". ومن المعروف أن جُدة هي من أعمال مكةالمكرمة. ولعل الحارث اختير على ولاية جُدة لِقدَمِ معرفته بها، فكما ورد سابقًا فقد كانت لأبيه نوفل بن الحارث، رضي الله عنه، أعمال تجارية في جُدة مثل استيراد الرماح إليها، وتخزين هذه الأسلحة في مخازن في جُدة، وليس بالمستغرب أن يكون الحارث رضي الله عنه قد ساعد أباه نوفل رضي الله عنه في أعماله التجارية تلك في جُدة، مما أكسبه معرفة بهذه البلدة التي ولاه أمرها رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فيما بعد، فأصبح أول أميرًا لها في الإسلام (16). ولا شك أن الحاجة لهذه الإمارة هي دليل آخر على أن جُدة كانت آهلة عامرة في ذلك الوقت مما استلزم أن يُولي عليها أميرًا يدير شؤونها وشؤون أهلها. المصادر والمراجع: (12) الدياب، محمد صادق: جُدة – التاريخ والحياة الاجتماعية، الطبعة الثانية، مطابع مؤسسة المدينة للصحافة (دار العلم)، جُدة ، (1424ه) ، ص/16. (13) ابن سعد، محمد: الطبقات الكبرى، المجلد الرابع، تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، (د.ت)، ص/44-46. (14) الدياب، محمد صادق: جُدة – التاريخ والحياة الاجتماعية، مصدر سابق، ص/16. (15) الفاسي، محمد بن أحمد: العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، المجلد الثالث، تحقيق محمد عبدالقادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، (1419ه-1998م)، ص/311-313. (16) ابن سعد، محمد: الطبقات الكبرى، المجلد الرابع، تحقيق إحسان عباس، مصدر سابق، ص/56-57.