حين كتبت قبل أسابيع عن الأعمار القصيرة للشعراء كنت أعرف أن لهذه الظاهرة استثناءاتها الكثيرة وأن التعميم في مثل هذا الأمر هو ضرب من ضروب المكابرة والافتئات على الحقيقة. فإذا كان معظم الشعراء لم يعمروا طويلا بسبب تمزقاتهم الروحية الداخلية التي تحدث في أجسادهم أعطالاً مبكرة يصعب إصلاحها فإن من بينهم من عمروا طويلاً وتمكنت أجسادهم من الصمود في وجه تحديات الروح وعذاباتها المؤرقة. يكفي أن نشير في هذا السياق إلى الأعمار المديدة لزهير بن أبي سلمى الذي أصابته الشيخوخة بالسأم، وللبيد بن ربيعة الذي سئم بدوره من الطول المتمادي للحياة ومن«سؤال هذا الناس كيف لبيد؟» ولم يخل كل عصر من العصور من حالات مماثلة تبدت جلية مع الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري الذي ناهز التسعين من العمر، وتبدت على وجه الخصوص مع الشاعر اللبناني سعيد عقل الذي يحتفل لبنان هذا العام بمناسبة مرور قرن كامل على ولادته. لا بل إن بعض المصادر الموثوقة تذهب إلى أن الشاعر الذي ارتبطت وثيقة ولادته الرسمية بالذكرى المأساوية لغرق «التايتانيك» هو في واقع الأمر من مواليد العام 1909 لا العام 1912 كما يحلو للشاعر أن يزعم. على أن هذه المسألة تظل ثانوية بالقياس إلى الأمر الأهم المتعلق بقيمة سعد عقل الشعرية ودوره الرائد في تحديث القصيدة العربية الكلاسيكية فهذا الشاعر الشغوف بالجمال عرف كيف يوائم ببراعة نادرة بين وسامته الظاهرة وبين وسامة لغته المنمنمة وتعبيراته المفرطة في التأنق. كأنه فيما يكتب يذهب إلى محاكاة الشعر الخالص والمصفى من أية شائبة متماهياً مع العالم في سديم التصورات لا في«وسخ» الواقع الترابي. ولشدة إعجابه بالرمزين فقد اندفع إلى استبدال التفاعل مع وجع العيش ومكابدات الحياة بالتفاعل مع اللغة التي تتكفل منفردة بخلق نماذجها في الوطن والمرأة والحب والقيم العليا. هكذا لا يعود لبنان عند سعيد عقل مساحة جغرافية أو وطناً واقعياً بل يصبح الوطن في المطلق أو في التصور الأسطوري. والمرأة بدورها ليست امرأة من لحم ودم حسيين بل هي وجود في الغيب والضمير والظن. مثل هذا الشعر لا يرتطم بالحياة بل يحلق فوقها كالطائر المنتشي بانفصاله عن الأرض, والمتصل بها في الوقت ذاته عن طريق البصر وسائر الحواس. وليس في كل قصائد سعيد عقل ما يشي بالألم والتمزق النفسي والمرض والانكسار والخوف من الموت بل ثمة انتشاء دائم بلذة الوجود وموسيقى الكلمات واحتفال الصور والأخيلة. ألهذا السبب إذن استطاع سعيد عقل أن يعمر كل هذه السنين وأن يتزلج على الزمن بدلاً من أن ينوء تحت عبئه الثقيل؟!