يروي أمين نخلة في كتابة «في الهواء الطلق» ان إلياس أبو شبكة، صاحب «أفاعي الفردوس» سأله مرة رأيه في قصيدة له كانت قد نشرتها إحدى المجلات يومئذ، فأجاب بشكل موارب: «لقد علمنا الناقد الفرنسي بوالو ما ينبغي للشعر وان هو قد غلا في ذلك فمالك تسألني ؟»أراد أمين نخلة ان يلفت نظر إلياس أبو شبكة إلى كلام للناقد الفرنسي في كتابه «الفن الشعري» يقول فيه: «في هذه الصناعة اجعل يدك تمر عشرين مرة وملس ونعم».. وأضاف قائلاً: لأبو شبكة: «هيهات ان يضعف النفس الشعري بمعاودة النظر ويصير الشعر بذلك إلى التكلف وان ما يجيء في النزلة الأولى ليس وحياً يوحى». فأخذ أبو شبكة بقلم كان على المنضدة وقال: «هذا الذي يكتب به كل يوم قائلة الله فإنه يعود العجلة في غرف الحبر»! ومضت أيام على ذلك ويطالع أمين نخلة لأبو شبكة قصيدة: «هي من الشعر المعجب، من الذي يحمل أثر الرؤية الثاقبة»، ويلقى الشاعر الياس أبو شبكة فيهنئه على قصيدته هذه ويعلق على مجمل ما رواه بقوله: «هاهنا لابد من القول ان المطبوعين على الشعر هم الذين يفهمون معنى معاودة النظر، طلباً لجمال القول في أبعد غاياته، فإن الشاعر المطبوع يكون حب الجمال في غريزته. أما متخلفو الطبع فهم لا يفهمون معنى معاودة نظر، ولا طلب جمال، ولا غايات بعيدة، إنهم ليسوا في هذا الوارد». كان أمين نخلة وهو ابن الكلاسيكية العربية والمطلع على رأي النقاد العرب القدامى في نظرياتهم الشعرية، يعتبر ان الشعر ليس نتاج عملية عجائبية بل نتاج فعل تأملي وعمل. وكان يرفض ضمناً ما يسميه بعض النقاد بالطبع كشكل علمي لأسطورة الجن والشيطان القديمة، إذ بالنسبة للقدماء كان لكل شاعر شيطان يلهمه وهذا يشبه تقريباً ربة الشعر لدى الاغريق. ولكن «الطبع» عنى فوق ذلك شيئاً آخر، فإن يولد الإنسان شاعراً بالنسبة للجاحظ وابن قتيبة لا يستلزم بالضرورة القدرة على الارتجال. وتؤكد ذلك العديد من الأمثلة ان الأمر يرجع حقاً إلى مميزات كتابة أقل مما يتعلق بطريقة إبداعية. فالشاعر المطبوع بالنسبة لابن قتيبة هو الذي «أراك في صدر بيته عجزه، وفي فاتحته قافيته. تبرز هنا إرادة الادانة لصنف من الشعر «المصنوع» المتكلف والمثقل يستفيد مؤلفه غير المحاصر بالزمن، من كل المقومات اللغوية التي تسمح له بعرض إبداع يقوم على الروية، التي تحدث عنها أمين نخلة وكان الجاحظ يعتبر ان كل مجهود ينال القصيدة يعد علامة ثابتة على عبقري ناقص، وذلك ما أدى به إلى اعتبار زهير والحطيئة من عبيد الشعر، والشيء المثير هو انه يستمد حجته الأساسية من جودة الإنتاج نفسها ،فالتهذيب يلغي منه كل ضعف ولا يدع فيه من العفوية شيئاً حسب رأيه. وهو نفسه يصف هذا المجهود الإبداعي بقوله: «ومن الشعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده زمناً طويلاً يردد فيها نظره ويجيل فيها عقله ويقلب فيها رأيه اتهاماً لعقله وتتبعاً على نفسه فيجعل عقله زماماً على رأيه ورأيه عياراً على شعره». يتعلق الأمر إذن بعملية متبصرة وواعية. فهي تتطلب وجود قواعد لتطبيق وهدفاً متوخى هذه القصائد المسماة بالحوليات والمنقحات والمحككات والمقلدات هي ثمرة جهد عسير واختبار طويل. فعبر تصحيحات متتالية يصل الأثر إلى حالته النهائية. يعيد ابن قتيبة معارضة «الطبع» و«التكلف» باستعمال نفس مصطلحات الجاحظ تقريباً. فهو يميز بين صنفين من الشعراء: الأول متكلف يتميز بطول التفتيش وأهمية التفكير وصعوبة الإبداع، مما يؤدي إلى كثرة الضرورات وحذف ما بالمعاني حاجة إليه وزيادة بالمعاني غنى عنه أما الثاني فطابعه هو العفوية. وتقدم كتب النقد القديمة معلومات تخص الوقت الذي يستغرقه بعض الشعراء لإنتاج قصيدة، يسجل أبو هلال العسكري الذي يشيد بفضائل الروية مجموعة من الأمثلة مأخوذة من القدماء والمحدثين على السواء.. فهو يعود لزهير الذي «يعمل القصيدة في ستة أشهر ويهذبها في ستة أشهر» قبل اظهارها ويخص الحطيئة شهراً لوضعها وثلاثة لإعادة النظر فيها. وكان الحطيئة، حسب ابن جني، ينتج سبع قصائد في سبع سنوات تتطلب كل واحدة منها أربعة أشهر لكتابتها، وأربعة أخرى لتهذيبها وأربعة أخرى لتكتمل في صورة نهائية. ويؤكد كتاب الأغاني أيضاً ان مروان بن أبي حفصة تلزمه سنة كاملة لتتمة قصيدة تمر بنفس المراحل. ويشير أبو هلال العسكري إلى ان أبا نواس بعد ان ينتج قصيدة «يتركها ليلة ثم ينظر فيها» فيلقي أكثرها ويقتصر على العيون منها، فلهذا قصر أكثر قصائده». ويرى جمال الدين بن الشيخ ان علينا أخذ هذه المعلومات بعين الاعتبار لنحكم على أصل القصيدة القصيرة ومآلها. ربما كانت نتيجة انتقاء، ولكن يبدو ان فضاءها يتقرر ابتداء من تشكل المشروع، وان طبيعة عمل إنجازه يتحدد بواسطته وجهل هذه الحقيقة يفسر غموض تعليق العسكري عندما كتب: «كان البحتري يلغي من كل قصيدة يعملها جميع ما يرتاب به فخرج شعره مهذباً. وكان أبو تمام لا يفعل هذا الفعل، وكان يرضى بأول خاطر فنعي عليه عيب كثير، في حين يتعلق الأمر بلغة متقنة جداً، حافلة بالمحسنات الأسلوبية وهو ما يتطلب عملاً مضنياً. ان تقبل كل ايحاءات مخيلته وعدم القدرة على تمييز الصحيح من الزائف يعود إلى افتقار للحكم النقدي، وليس إلى طريقة خاصة في الإبداع. وبخصوص أبي تمام يقدم ابن رشيق من عمله حجة إضافية دعتها الضرورة فيقول: «وكان أبو تمام يكره نفسه على العمل حتى يظهر ذلك في شعره». فهو يخبرنا في نفس الوقت ان الشاعر لا يسجل أشعاره إلاّ بعد تأمل طويل وعسير، وذلك بعد ان يتبين له الغرض. ويؤكد مبدعون كبار ان بحثاً يستغرق زمناً طويلاً هو وحده الشاهد على إنتاج ذي قيمة وجدير بالبقاء. فقد كتب ابن المعتز: والقول بعد الفكر يؤمن زيفه شتان بين روية وبديه وقال ابن الرومي: نار الروية جد منضجة وللبديهة نار ذات تلويح وقد يفضلها قوم لعاجلها لكنه عاجل يمضي مع الريح! ان ابن المعتز وابن الرومي، وهما ينتميان لاتجاه البديع يتلقيان بذلك ارث أبي تمام، ويقومان من جهة ضد النقد ما دام يدعو إلى العفوية، لكنهما يبينان على وجه الخصوص ان الشعر كما يدركانه ويكتبانه يتطلب طريقة إبداع ملائمة. وهناك نص منسوب لأبي تمام يتعلق بمجموعة من الوصايا موجهة لتلميذه اليافع البحتري الذي يخبرنا بها قائلاً: «كنت في حداثة سني أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضائه، حتى قصدت أبا تمام، فانقطعت فيه إليه، واتكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم، صغر من الغموم، واعلم ان العادة في الأوقات ان يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر. وذلك ان النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم. فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً، والمعنى رشيقاً، وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق، وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وابن معالمه، وشرف مقامه، وتقاض المعاني، واحذر المجهول منها، وإياك ان تشين شعرك بالألفاظ الزرية، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك، ولا تعمل إلاّ وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الخال ان تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين: فما استحسنه العلماء فاقصده وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله تعالى». لا يمثل كل هذا قاعدة للعمل فقط، بل فن شعري، يطلب أبو تمام من مولاه ان يبين تركيزاً وتبصراً واقتداراً. ويدعوه في نهاية المطاف إلى التزام قواعد مثال مقبول لا تعود المسألة على الاطلاق إلى الالهام، ولا تتعلق ببريق يخترق الوعي، بل بالروية تماماً. فالشاعر يزاول عمله ببراعة فيما جسده مرتاح وذهنه صاف. ويقترح النص أيضاً بصورة ضمنية فكرة ان بعض الاطراد مفضل. ويخصص ابن قتيبة أيضاً فقرة للحديث عن الأوقات الملائمة للتأليف، لكنه يحرص على بيان ان تحليله يخص الشعراء المتكلفين، مدعماً بذلك التمييز القائم والأفضلية الممنوحة. وعندما سيقدم ابن خلدون في مرحلة متأخرة على إثارة نفس الموضوع، أثناء وصفه بصيرورة الإبداع بدقة نادرة، فسيعتبره أيضاً عملية تزاول بوعي تام في لحظة يمكن فيها الشاعر، وهو متحكم في قدراته ان يوجه هذا العمل حسب هواه. وعلى غرار أبي تمام، فإن الإبداع لا شأن له بحمى ولا بحالة نفسية شاذة.