تعرف على أمنية رينارد قبل قرعة كأس العالم    الأخضر الأولمبي يتغلب على البحرين بخماسية في كأس الخليج    أمير منطقة جازان يؤدى واجب العزاء والمواساة لإبراهيم بن صالح هملان أحد أفراد الحماية (الأمن) في وفاة شقيقته    تقارير.. حقيقة خروج نونيز من الهلال في الشتاء    نادي وسم الثقافي بالرياض يعقد لقاءه الشهري ويخرج بتوصيات داعمة للحراك الأدبي    Gulf 4P, CTW & Mach & Tools 2025 المنصّة الإقليمية الرائدة للابتكار والتقدّم الصناعي    رئيس مجلس النواب الهندي يلتقي وفد لجنة الصداقة البرلمانية السعودية الهندية    "إثراء" يحصد جائزة العمل التطوعي للمرة الرابعة    سيبراني تختتم مشاركتها في بلاك هات 2025 وتُعزّز ريادتها في حماية الفضاء السيبراني    بمشاركة 3000 مستفيدًا من منسوبي المساجد بالمنطقة … "الشؤون الإسلامية" تختتم برنامج "دور المسجد في المجتمع" لمنسوبي مساجد الشريط الحدودي بجازان    خطيب المسجد النبوي يبيّن مكانة آية الكرسي وفضلها العظيم    الدكتور المعيقلي يزور مقر الاتحاد الإسلامي في جمهورية مقدونيا الشمالية    مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون يفوز جائزة أفضل مشروع حكومي عربي لتطوير القطاع الصحي    الذهب يستقر مع ضعف الدولار وسط رهانات خفض أسعار الفائدة وتراجع عوائد السندات    النفط يتجه لمكاسب أسبوعية مع آمال خفض "الفائدة" وتصاعد التوترات الجيوسياسية    مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري يشارك في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2025    غوميز يستهدف بديل إيكامبي    ثلاثي دوري روشن السعودي بين عمالقة كرة القدم في المونديال القادم    ملتقى ميزانية 2026 يختتم أعماله    وزير التعليم يلتقي القيادات بجامعة تبوك    هيئة الهلال الاحمر بالباحة تشارك جمعية الاطفال ذوي الاعاقة الاحتفاء باليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة    جمعية التطوع تفوز بالمركز الأول في الجائزة الوطنية للعمل التطوعي    اللواء العنزي يشهد حفل تكريم متقاعدي الأفواج الأمنية    المؤتمر العربي رفيع المستوى يدعو إلى تعزيز حماية الأطفال    اعلان مواعيد زيارة الروضة الشريفة في المسجد النبوي    المجلس العالمي لمخططي المدن والأقاليم يختتم أعماله    التوصل لإنتاج دواء جديد لعلاج مرض باركنسون "الشلل الرعاش"    أمين جازان يتفقد مشاريع الدرب والشقيق    كولينا : استخدام (فار) في احتساب الضربات الركنية لن يعطل المباريات    تهامة قحطان تحافظ على موروثها الشعبي    الدفاع المدني يحتفي بيوم التطوع السعودي والعالمي 2025م    أمير تبوك يستقبل معالي وزير التعليم ويدشن ويضع حجر الأساس لمشروعات تعليمية بالمنطقة    جمعية سفراء التراث تحصد درجة "ممتازة " في تقييم الحوكمة لعام 2024    واشنطن تستضيف قرعة كأس العالم 2026 اليوم    رصد مسيرات بالقرب من مسار رحلة زيلينسكي إلى دبلن    ب 56 ميدالية .. السعودية تتصدر العالم في بطولة كمال الأجسام    أمير جازان يؤدي واجب العزاء لأحد أفراد الحماية في وفاة شقيقته    معركة الرواية: إسرائيل تخوض حربا لمحو التاريخ    سفير المملكة في الأردن يرعى حفل ذوي الإعاقة في الملحقية    مفردات من قلب الجنوب ٣١    قمة البحرين تؤكد تنفيذ رؤية خادم الحرمين لتعزيز العمل الخليجي وتثمن جهود ولي العهد للسلام في السودان    أمير منطقة تبوك يكرم المواطن فواز العنزي تقديرًا لموقفه الإنساني في تبرعه بكليته لابنة صديقه    الناتو يشعل الجدل ويهدد مسار السلام الأوكراني.. واشنطن وموسكو على حافة تسوية معقدة    آل حمدان يحتفل بزواج أحمد    سمر متولي تشارك في «كلهم بيحبوا مودي»    معرض يكشف تاريخ «دادان» أمام العالم    فرع الموارد البشرية بالمدينة المنورة يُقيم ملتقى صُنّاع الإرادة    أكد معالجة تداعيات محاولة فرض الأحكام العرفية.. رئيس كوريا الجنوبية يعتذر عن الأخطاء تجاه «الشمالية»    وزير الموارد البشرية: 2.5 مليون موظف سعودي في القطاع الخاص    تعاون سعودي – كيني لمواجهة الأفكار المتطرفة    برعاية خادم الحرمين..التخصصات الصحية تحتفي ب 12,591 خريجا من برامج البورد السعودي والأكاديمية الصحية 2025م    مقتل آلاف الأطفال يشعل الغضب الدولي.. العفو الدولية تتهم الدعم السريع بارتكاب جرائم حرب    صيني يعيش بولاعة في معدته 35 عاماً    ابتكار علاج صيني للقضاء على فيروس HIV    الكلية البريطانية تكرم الأغا    إقحام أنفسنا معهم انتقاص لذواتنا    لم يكن يعبأ بأن يلاحقه المصورون    القيادة تعزي رئيس سريلانكا في ضحايا إعصار ديتواه الذي ضرب بلاده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمر بن عبدالعزيز المحمود
تقنيةُ (المفَارَقَة)..وَمَسَافَاتُ التوتُّر (4)
نشر في الجزيرة يوم 29 - 03 - 2012

وحين كشفتُ فيما سبق عن أبرز الأسس النظرية التي انبثقت منها (المفارقة) مصطلحاً ومفهوماً أوضحتُ أن ذلك لم يغب عن العرب الذين استوعبوا هذا المفهوم، وأدركوا تأثيره في النص الأدبي؛ ولذا وجدنا الشعراء يتسابقون على استخدام هذه التقنية في نصوصهم،
ويتنافسون في الإبداع من خلال استخدامها، سعياً منهم إلى إدهاش القارئ، ورغبةً في جذبه إلى الاستماع والإصغاء، وإجباره على الإعجاب بهذه الصور المتضادة التي تصور مواقف الحياة المتضاربة، وتكشف عن تناقض كثير من سياقاتها، كما يراها المبدع.
ولذلك فليس عجيباً أن يدرك الأدباء والنقاد العرب قديما أن حس الشاعر ب(المفارقة) لا يقتصر على رؤية الأضداد ووصفها في إطار (المفارقة)، بل في قدرته على إعطائها صورة في الذهن أولاً، ثم مطاردتها في الحياة والواقع، وعندها يستطيع أن يتفاعل مع ما يحدث في الواقع ضمن مفهوم (المفارقة)، كما أدركوا في الوقت نفسه أنه ليس كل شاعر يستطيع أن يتلبس فلسفة (المفارقة)، فهي ليست لباساً خارجياً، بل فلسفة ونظرة جوهرية للعالم، وإذا لم يستغرق الشاعر فيها، ويتشبع بها، لا يجد فكره وشعره الطريق لها، وحين تصبح (المفارقة) عند الشاعر فلسفة وسلوكاً وشعوراً يستطيع عندها أن يلتقط أشتات (المفارقة) في الواقع والكون، ويجمعها في منشور اللغة والشعر، لذا يجد الفَطِنُ من النقاد والأدباء والمتتبعين أن (المفارقة) لا يقدم عليها إلا الشعراء الكبار، ويفرُّ منها من كانت تجربته بسيطة ومحدودة، وما ذاك إلا لأنها تحتاج -إضافة إلى تحديد معالمها، والتفاعل معها، والشعور بها في الحياة اليومية- قدرةً في تجسيدها لغةً وشعراً وإحساساً.
ولعل أبرز الشعراء العرب الذين أبدعوا في استخدام هذه التقنية (أبو الطيب المتنبي) الذي ما زالت مفارقاته البديعة تملأ الدنيا وتشغل الناس، فقد أولى المتنبي اهتماماً بالغاً ب(المفارقة)، واستعان بها في كثير من أساليبه وتعبيراته، وكانت وما زالت شواهده في ذلك مثار إعجاب وإدهاش للنقاد الذين توقفوا طويلاً أمام تلك الاستخدامات المتألقة، والدلالات المدهشة التي أنتجها الشاعر من خلال استثماره المتألق لهذه التقنية.
ولا غرو أن يؤكد النقاد على أن (المفارقة) من أبرز الظواهر التعبيرية التي تميزت بها نصوص أبي الطيب، وأكسبت لغته (كثافة) دلالية، و(مسافات) كبرى من (التوتر)، وذلك بما تحدثه في صوره وأساليبه ودلالاته من هزة تركيبية تخرجها عن المألوف والمتوقع إلى ما هو غير متوقع، حيث يشكل شعره بنية تعتمد على ظواهر (المفارقة) بشكل مميز، تتشابك مع غيرها من الظواهر التعبيرية لتفجر طاقات اللغة الإيحائية، وتسهم في إنتاج الشعرية، ولا ريب أن الإبداع في استخدام (المفارقة) والتميز في التعامل أنماطها من أبرز الأسباب التي جعلت نصوص هذا الشاعر العبقري تصل إلى هذه المرحلة المتقدمة من الاحتفاء.
ولعل في حياة المتنبي خصوصية أدت إلى إبداعه في هذا الأسلوب، فقد امتلأت حياته وواقعه بالمفارقات والتناقضات، مما صبغ نفسيته وفكره بهذه الازدواجية التي لم تفارقه حتى آخر حياته، واتخذت مظهراً تعبيرياً غلب على شعره، ومنحه هذه الخاصية القائمة على (المفارقة) والسخرية، فمن يقرأ في سيرة هذا الشاعر سيدرك ذلك التصادم الذي وقع بين مرمى طموحه وفكره من جهة وواقعه الذي يعج بالمتناقضات ومهاوي الخيبة والقهر، وسيلحظ دون عناء أنه عاش في صراع وقلق دائمين في جميع مراحل حياته، فانعكس ذلك في شعره بشكل عام.
ولعل في اختيار بيت شهير من أبيات هذا الشاعر العبقري ما يفصح عن مدى قدرته على توظيف هذه التقنية في إنتاج دلالات مدهشة وعجيبة، وذلك حين يقول في سياق هجائه لإسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ:
ذُو العَقْلِ يَشقَى في النَّعيمِ بِعَقلِهِ
وَأَخو الجَهَالةِ في الشَّقَاوَةِ يَنعَمُ
فأول ما يلفت انتباه المتلقي في هذه البنية المرجعية ويخرق مرجعيته هو تلك (المفارقة) العجيبة التي تكسر التوقع، باعتمادها على عنصر المباغتة والمفاجأة، من خلال هذا التعارض والتناقض والتقابل الذي بنى عليها الشاعر عبارته، ويوحي بمستويات أخرى من الدلالات فيما وراء الظاهر، مما يؤدي إلى استفزاز وعي المتلقي لإدراك المعاني الخفية التي تنطوي عليها هذه (المفارقة).
فالتعارض القائم بين العبارتين (يشقى في النعيم) و(في الشقاوة ينعم)، والتقابل بين الموقفين يخلق (مفارقة) حادة تصدم المتلقي، وتخلخل ما استقر في ذهنه بهذه الصورة الساخرة التي تتعارض مع الحقائق الموضوعية وتنقلب فيها المفاهيم، حين يصبح العقل نقمةً والجهل نعمة، ويتحول الشقاء نعيماً والنعيم شقاء، الأمر الذي يثير حيرة المتلقي ودهشته، ويثر تساؤله، إذ كيف تنقلب نعمة العقل نقمةً على صاحبه؟ وما الذي يجعل الجهل نعمة؟ وهل من الطبيعة أن يشقى المرء بالنعيم وينعم بالشقاء؟
لقد كان في ذهن المتلقي أن صاحب العقل ذو تفكير سليم وسلوك قويم وإرادة حرة، وأنه ذو طبيعة سوية لا تطلب شيئاً متنافياً مع الطبيعة ولا مضاداً لها؛ ذلك أن العقل نعمة حباها الله تعالى للإنسان وميزه بها عن غيره، من سائر المخلوقات؛ ليميز بها الخير من الشر، والطيب من الخبيث، وما يحافظ به على وجوده، ولذا فمن غير المتوقع أن يكون الإنسان غريباً عن ذاته، فيرى في النعيم شقاءه، ويرى في الشقاء نعيمه، فذلك لا يكون إلا من مختل غير سوي؛ لأنه مما يخالف الطبيعة الإنسانية، حيث الشقاء بما يفيده من معاني المحنة والشدة مع النعيم، بما يفيده من معاني طيب العيش واتساعه.
غير أن عبارتي الشاعر جاءت لتكسر التوقع، وتخالف المألوف بهذه الصورة التي تنطوي على (مفارقة) ساخرة، انقلبت فيها المفاهيم، وفقدت منطقيتها، وتغيرت طبيعة الإنسان، وتحولت من خلال الرؤية والموقف الشعوري إلى ما يناقض ذلك، ولعل تخصيص الشاعر (ذو العقل) ومقابلته ب(أخو الجهالة) في العبارة جاء ليعمق الإحساس بالسخرية، فبدا العالم غريباً معقداً ومتناقضاً، يكاد يخلو من الانسجام نفسه، إذ لم يعد صاحب العقل يرى في النعيم حالة من الدعة والرفه، يشعر فيها براحة البال وهدوء النفس، بينما يجد الجاهل -بجهله وغفلته- النعيم فيما يمكن أن يعود عليه بالشقاء والتعب والألم والعذاب.
ويمكن القول هنا أن وعي الذات بهذا التخلخل والتناقض وانقلاب سلم القيم في الواقع الموضوعي هو الذي عمق حس الأزمة، وزاد من مسافة التوتر لدى الشاعر والمتلقي، مما انعكس في هذه البنية الشعرية التي تقوم على هذه التقنية بوصفها مظهراً من مظاهر التعبير الذي يكسب التجربة جمالية تستثير وعي المتلقي، وتستفزه لإدراك الدلالة فيما وراء السطح، ذلك -كما يقول النقاد- أن الميزة الأساس في (المفارقة) هي التباين بين الحقيقة والمظهر، فقد حملت هذه العبارة (مفارقة) عنيفة؛ لأن فيها ما يتعارض مع الطبيعة البشرية في بعدها النفسي، وهو ما يشكل مفاجأة للمتلقي تصدم توقعه وتستثير فضوله على نحو يحقق التواصل والتفاعل مع النص، سعياً إلى ملء الفجوة الحاصلة، وإدراك المعنى الخفي الذي يحرك هذه (المفارقة). لقد وجدت ذات أبي الطيب الشاعرة -التي فقدت انسجامها مع الواقع، وبدت ضحية مفارقاته وتناقضاته- في الشعر مجالاً تبحث فيه عن الحل، وتحقق الانسجام، عن طريق هذه الظاهرة التعبيرية، التي تجمع بين المتقابلات، وتجاور بين المتناقضات، بصورة تخالف الواقع، وتخلق موقفاً إيحائياً يؤدي وظيفة اجتذاب المتلقي للتواصل والتفاعل مع النص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.