قبل ما يقرب من شهر واحد فقط كنت أُؤدي واجب العزاء في وفاة والد السفير محمّد الطيب، وكنت على مقربة في مجلس من معالي الوالد الدكتور محمّد عبده يماني ومعالي الأخ والصديق السيد الدكتور نزار عبيد مدني، وفجأة حضر الأخ الكريم السيد الدكتور أنور ماجد عشقي، الذي يرتبط بعلاقة صداقة مع المرحوم الأستاذ أمين عبدالله وسألته عنه فأجابني بأنه يعاني من أزمة مرضية، وزودني برقم هاتفه، وحاولت الاتصال مرارًا ولكن دون جدوى، فلقد اعتزل المرحوم المجالس في الأعوام الأخيرة مع أنه كان يغشى بين الحين والآخر منتديات الثقافة والفكر والأدب؛ فلقد كان منذ نشأته الأولى في طيبة الطيبة معروفًا بميوله الفكرية والأدبية، فلقد كانت مدرسة العلوم الشرعية يُدرِّس بها عدد من علماء البلدة الطاهرة الذين يجيدون التمكن في العلوم الشرعية والعقلية والأدبية. كان من حسنات هذه المدرسة التي أسسها السيد أحمد الفيض آبادي سنة 1340ه ثم تولى إدارتها من بعده السيد حبيب محمود أحمد سنة 1359ه كان من حسناتها فتح المجال أمام طلبتها لحفظ القرآن الكريم وتجويده، وكان بهذه الشعبة القرآنية عدد من أشهر الحفّاظ لكتاب اللّه في مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم كما أتذكر: السيد أسعد الحسيني، والسيد أحمد السنوسي، والشيخ محمّد الشريف، والشيخ عبدالحفيظ تمنكاني، والشيخ توفيق عمر والد معالي الأستاذ محمّد عمر توفيق، والشيخ عبدالله الخربوش، والشيخ علي زواوي، والشيخ أحمد مختار الشنقيطي.. [عن المُدرسين بالمدرسة ينظر: كتاب “مدرسة العلوم الشرعية بالمدينةالمنورة والموقع التاريخي الرائد”، د.محمد العيد الخطراوي، ط1، 1411ه - 1990م. والتحق الفقيد بشعبة القرآن الكريم وتخرج فيها عام 56/1357ه، مع جملة من أبناء البلد الطاهر يأتي في مقدمتهم الوالد الشيخ إبراهيم بن عمر غلام -أمد الله في عمره- ، والشيخ عبدالعزيز بن ناصر التركي، والشيخ حمزة بن عثمان فلاتي، والسيد عبدالعزيز بن إدريس هاشم، والشيخ بكر بن فلاح المزيني، والشيخ علي بن بشير هوساوي، والشيخ عبدالقادر بن أحمد مغربي، والشيخ مشاري بن دخيل، والشيخ علي بن حسين عويضة؛ رحم الله من رحل وبارك في من بقي. ثم تخرج الفقيد بعد دراسته في القسم العالي منها عام 1360ه، وقد أكد لي الوالد الشيخ إبراهيم غلام في مكالمة هاتفية أجريتها معه بعد وفاة الفقيد أنه كان زميلًا للأستاذ أمين العبدالله في القسم العالي الذي تخرج فيه عدد من رجالات العلم والفكر والأدب في بلادنا من أمثال المشائخ والأساتذة محمّد عمر توفيق، وعبدالقدّوس الأنصاري، ومحمّد الحافظ موسى، وعبدالمجيد حسن، وأحمد بشناق، وغيرهم رحمهم الله جميعهم. ارتبط اسم الأستاذ أمين براعي الأدب والأدباء في بلادنا والإنسان النبيل أو “وجه الخير” كما كان يُلقّب الشيخ محمّد سرور الصبّان، ولعلي أذكر في مقالتي هذه بأن السيد علي حسين عامر أحد رجالات الإدارة في بلادنا في الحقبة الماضية والشاعر المعروف ذكر لي أن الشيخ ضياء الدين رجب أحد رجال القضاء والعلم والأدب في بلادنا بأنه -أي الشيخ ضياء- هو من أشار على الشيخ الصبّان بأن يتخذ من الأستاذ أمين سكرتيرًا له عندما كان وزيرًا للمالية. ولكن في إحدى المناسبات التي كان يقيمها الأستاذ حامد عمر -رحمه الله- في شهر رمضان احتفاء بمعالي السيد أحمد زكي يماني، ذكر الأستاذ أمين وكان حاضرًا تلك المناسبة -التي ربما كانت الأخيرة في حياة المضيف الأستاذ حامد- أنه عندما كان في المدينةالمنورة كتب للشيخ الصبّان عن حالة إنسانية، وأعجب الصبّان بالأسلوب الأدبي الرفيع للأستاذ أمين فاتخذه -بناءً على مواهبه- سكرتيرًا له. ** في إحدى أمسيات الاثنينية برعاية صاحبها الشيخ الأديب عبدالمقصود خوجة دار حوار عن عميد الأديب العربي الدكتور طه حسين، فتكلّم الأستاذ أمين بأسلوب بياني فصيح، وسرد معلومات كثيرة عن المعركة التي قامت بين الأديبين طه حسين ومصطفى صادق الرافعي، فأُخذ الجميع بأسلوبه وثقافته وعلمه. ** ويذكر الأستاذ الأديب عبدالفتّاح أبومدين بأنه في الحفل الذي أقامه نادي جدة الأدبي تكريمًا لفضيلة الشيخ محمد الحافظ موسى ذلك في مساء يوم الأحد 1/6/1401ه تحدّث عدد من تلاميذ الشيخ الحافظ وكان في مقدمتهم الأستاذ أمين، ويصف أستاذنا أبومدين أسلوب الأستاذ أمين في كلمته الاحتفائية بأستاذه قائلًا: “وتحدث الأستاذ أمين عبدالله القرقوري فذكر سيرة الرجل العزيز، وكان حديث الأخ أمين حديث العارف الواعي المحيط بحياة الشيخ الحافظ وهو حديث طلي، مركز وبليغ أوفى فيه حق الأستاذ علي الطالب وذلك وفاء من وفاء جدير به المحتفى به، وجدير به المتحدث الكريم”. [انظر “هؤلاء عرفت”، عبدالفتّاح أبومدين، النادي الأدبي الثقافي بجدة ط1، 1421ه -2000م]. ** حدثني الفقيد مرة عن شجاعة وجرأة الشيخ سعود دشيشة -أحد أبرز رجالات المدينةالمنورة في الحقبة الماضية- وكيف أنه كان لا يرضى أن يظلم أو يضام أحد، ولجرأته في الحق عيّنه المغفور له الملك عبدالعزيز عضوًا في مجلس الشورى، ولكنه اعتذر مع صديقه ذياب ناصر بعد مدة قصيرة، وحديث الفقيد عن الرمز “الدشيشة” والذي كانت تقوم داره في حي العنبرية والتي تقابل آنذاك دار الإمارة يدل على أنه أدرك عددًا من رجالات المدينة وتأثّر بهم. ** حياة الإنسان المهذب أمين عبدالله تراوحت بين التدريس والعمل الإداري في ديوان المراقبة العامة، ورابطة العالم الإسلامي على عهد أمينها الأول الشيخ الصبّان، والمؤتمر الإسلامي، ثم صحيفة البلاد التي عمل مديرًا لها سنة 1410ه وخلفه فيها الشيخ عبدالعزيز حنفي، ولكن ممارسته في الكتابة كانت ملحوظة في الثمانينيات شهدت كثيرًا من تصارع الأيديولوجيات في العالم العربي، ولقد كان الأستاذ أمين ميالًا -بحكم منابع ثقافته الأولى في المدينة- إلى الفكر الإسلامي كبقية عدد من الروّاد من أمثال أصحاب المعالي والأساتذة الكرام: أحمد صلاح جمجوم، وحسن كتبي، وعبدالعزيز السالم، وأحمد جمال، وعثمان الصالح، وأحمد عبدالغفور عطار، وعبدالله بن خميس، ومحمّد صلاح الدين الدندراوي، وعبدالله بن إدريس، ومحمّد أحمد باشميل، ومحمّد حميدة، كما كان هؤلاء وسواهم داعمين في كتاباتهم لحركة التضامن الإسلامي التي أسّس لها المغفور الملك فيصل -رحمه الله-. ** لقد كانت الساحة الثقافية والأدبية في بلادنا تتطلّع بشغف كبير إلى أن يقوم المرحوم بتدوين ذكرياته مع الشيخ الصبّان، ولكنه كان يحجم عن ذلك، وسألته مرة عن هذا الشأن فأجاب بأنه بصدد تدوين أحداث تلك المرحلة الهامة من مراحل تاريخنا الإداري والفكري والأدبي، ولكن المنية عاجلته قبل أن يتم عملًا مثل هذا كان -بلا شك- سوف يضيف جديدًا وخصوصًا للناشئة الذين كانوا يسمعون كثيرًا عن الرموز في بلادنا ولكنهم لا يجدون شيئًا مدوّنًا عنهم. ** رحم الله الإنسان النبيل والمهذّب والأديب أمين العبدالله، وأسكنه فسيح جناته، والعزاء لأخيه وأهله وأصدقائه.