قال تعالى: «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموالِ والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهِم صلوات من ربهِم ورحمة وأولئك هم المهتدون» (157). البقرة. اللهم اجعلنا من الصابرين المحتسبين الراضين بقضائك وحكمك.. والدتي الحبيبة، هذه رسالتي الأخيرة إليك، لأول مرة أتحدث إليك ولا تسمعينني، ولأول مرة لا أسمع دعواتك لي. سبحانك يا رب، أخذت إلى جوارك أعز وأغلى ما أملك في هذه الحياة، فيا رب يا كريم، الكرام يغدقون على ضيوفهم ويكرمونهم، وأنت يا رب أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، فيا رب، والدتي بين يديك ضيفة فأكرمها ولا تذلها، وزدها ولا تنقصها وارحمها ولا تسخط عليها، فهي يا رب لا حول لها ولا قوة إلا بك وبرحمتك، وهي يا رب من عبادك الذين أكرمتهم وأنعمت عليهم بحسن الخلق، وشهد لها الجميع بذلك، فاجعل ذلك شفيعا لها برحمتك يا أرحم الراحمين. يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر رجب، يوم مبارك في شهر من أشهر الله الحرام، وهو يوم وفاة والدتي، فاللهم لك الحمد ولك الشكر، إنه يوم لا أنساه أبدا فقد غابت فيه عني أغلى إنسانة، وأحن قلب، قلب حمل كل معاني الحب والصفاء، قلب عاش طاهرا ومات طاهرا، قلب أعطى أكثر مما أخذ. عاشت والدتي، لي ولإخوتي، ربت وتعبت وسهرت وحملت الأسى، وتحملت الكثير والكثير من أجلنا، ولسانها دائما يردد: الحمد لله الذي رزقني إياكم، كانت تقول: «والله ربي عوضني بكم وهذا ما أتمناه، ولا أريد شيئا من هذه الدنيا سوى أن أراكم بخير ورضا»، كانت سعادتها تكتمل عندما تراني وإخوتي مجتمعين حولها، كنت أراها اليوم فيأتي هاتفها في اليوم التالي وهي تقول: «وحشتني يا ولدي.. لم أرك منذ فترة»، فأقول لها : «يمه أمس كنت معاكي»، فترد علي فورا : «والله شايفة أمس بعيد يا ولدي، لا أريد منك شيء سوى اتصال دقيقة واحدة تخبرني فيها أنك بخير وأطمئن عليك». لله درك يا أم محمد، فما أعظمك من أم، كنت تعلميننا دروسا في الحياة، لم نستطع أن نفهمها أو نعيها بالرغم من سنين عمرنا وتجاربنا في الحياة، علمتني يا والدتي معنى التسامح، علمتني يا والدتي حب الناس وتجاوز هفواتهم مهما كانت كبيرة، كنت تقولين لي دائما: «يا ولدي سوي طيب وأرمي في البحر»، وعشت بنصيحتك عمري هذا، فكانت علاقتي بالناس بفضل الله حبا وتسامحا، تعلمت منك يا أمي الشكر وكلمة الحمد لله دائما، كنت في أصعب الظروف سواء صحية أو اجتماعية أو غيرها وتقولين لي: «والله تعبانة يا ولدي صحيا»، أو تذكرين لي عتبك على بعض المعارف، ولكن تنهي حديثك بكلمة : «لكن برضه يا ولدي أقول الحمد لله على كل حال ربي عنده الخير كله»، حتى وأنت في أزمتك الصحية الأخيرة أراد الله لك ما أراده ولا راد لقضائه وحكمه، لم نسمع منك طيلة فترة مرضك وبالرغم من ثقل لسانك وعدم قدرتك على الحديث سوى كلمة واحدة لم تغب عن لسانك أبدا ولو همسا وهي: «الحمد لله الحمد لله»، لقد غالب إيمانك كل الكلمات والعبارات وظل رجاؤك وارتباطك بالله أكبر وأكبر. فيارب هي لم تذكر أحدا سواك في مرضها بل تحمدك وتشكرك على مصابها، فيارب جازها وجد عليها من رحماتك ورضاك يا أرحم الراحمين. صليت الجمعة وأتيت بك كعادتي كل جمعة وكنت على موعد مع رحلة عمل، فقبلت رأسك ويدك وحضنتك ولم يخطر ببالي أنه الوداع الأخير معك يا أغلى الناس، فسافرت ولم أكد أصل المحطة الأولى من رحلتي حتى جاءني صوت أخي حزينا جدا عبر الهاتف يخبرني بأن الوالدة مريضة جدا، فقلت له بل قل بأن الوالدة توفيت، فقال لي نعم يرحمها الله، فأقفلت السماعة وبدأت أبحث عن أي رحلة تعود بي إلى والدتي لأراها للمرة الأخيرة، وهنا أود أن أسجل بكل تقدير وامتنان وشكر لكل الذين قدموا لي كل المساعدة والعون في مطار اسطنبول عندما علموا بظرفي حتى وجدت نفسي على مقعدي في الطائرة التركية العائدة إلى جدة فجر يوم السبت 1/8/1432ه.. والدتي، يا أغلى حبيبة، والله لا أعلم كيف ستكون الحياة بعدك، كنا لا نخطو خطوة واحدة أنا وإخوتي إلا ولسانك ويدك مرفوعة إلى الله العلي القدير أن يحفظنا وييسر لنا أمرنا في كل مكان نغدو إليه، والآن المؤكد أننا سنعتمد على الله الفرد الصمد ثم على أنفسنا، وسنكون كما ربيتنا وعودتنا على الخلق والأدب الذي عشنا به إلى أن نلقاك في الفردوس الأعلى من الجنة التي هي رجاؤنا ودعواتنا للواحد الحي الذي لا يموت. أحمد بن حامد نقادي وكيل جامعة الملك عبد العزيز [email protected]