عندما تستعرض حياة الكبار في عالم الفن، فإنه ينبغي عليك معرفة صفة وخصائص المهمة، فهناك عملية البحث والتنقيب وهناك محاولة واشتراط أن يكون ماتطرحه أقرب جدا من الصحة إذا لم يكن ذلك صحيحا بنسبة 100%.. وإذا كان ضيفك واحدا من أولئك المليئين بالتأريخ والإنجاز في الحياة الفنية، وفي صناعة الإبداع في دنيا الموسيقى والغناء كما هو الحال مع الفنان الشامل الفذ أبوبكر سالم بلفقيه، المطرب، الملحن، الشاعر، وقبل كل هذا وبعده.. أبوبكر الأديب والمثقف، أبو بكر سالم بلفقيه الحالة، فهو بلا شك حالة إبداعية تختلف عما سواها بلا ريب، هو حالة إبداع تحتاج إلى دراسة من قبل دارسين وباحثين وليس صحافيين، إن بلفقيه فنان تسربل بالكثير من الإبداع المرتبط بالتأريخ الفني للجزيرة العربية وتحديدا بلده المملكة العربية السعودية واليمن. ظل بلفقيه حجة في الأصيل من الغناء الطربي واعتبر أستاذا لجيل بل أجيال من الخائضين في الحياة الفنية العربية وليس أبناء الجزيرة فقط، ولطالما أدهشت حنجرته كبار أساتذة ونقاد الفن العرب الذين تحدثوا عن إمكاناته الفنية وقدراته وشاعريته، ومن المفيد أن نقول أيضا إن أبا بكر بلفقيه ارتبط ارتباطا كبيرا باللغة كيف لا ؟ وهو ابن بيت عنده فقه اللغة العربية، والشعر أول الاهتمامات، ثم إن جغرافية المكان والزمان في دواخل بالفقيه أشربته الكثير من أصول الفن والأدب من الجذور والمناهل الطبيعية، كما لو أن أمومة الفن والثقافة والأدب أرضعته ما لم ترضعه لغيره من أبناء الفن، ومن ناحية أخرى كانت هناك المتغيرات الكثيرة لو أنها حدثت لغيرت في حياة أبو بكر رأسا على عقب مثل ذلك المنعطف الكبير في حياته عندما جاءته بعثة دراسية إلى السودان ليدرس في معهد للمعلمين هناك يعود بعده إلى بلده تريم في اليمن مدرسا إلا أن حب جده اللا محدود له هو ما جعله يرفض سفره إلى هناك، ليبقى الحفيد إلى جواره وهو في مقتبل الشباب ورشح يومها لهذا الابتعاث خالد فدعق أحد زملاء درب بلفقيه.. المهم أن اتجاه بلفقيه شمالا إلى جدة هو ما جعله يتماهى مع مواهبه الدفينة في اللغة والفن بمجمل ألوانه ليكون بعد ذلك الفنان الكبير الذي يشار إليه بالبنان منذ أكثر من نصف قرن من الزمان تسيد فيها بلفقيه ساحات الفن في لونه الغنائي الأميز صانعا نهجا ولونا خاصا به ومدرسة شهدها ولعب في فنائها موهوبون عديدون وكذلك مدعون ألصقوا أنفسهم وأسماءهم في مدرسته. من هو هو أبوبكر سالم زين بن حسن بلفقيه «هكذا هي صحة كتابة اسمه وليس كما تكتب عادة في الإعلام».. بلفقيه ولد عام 1939م في مدينة تريم «حضرموت» جنوب اليمن. اختار له أبوه اسم أبوبكر تيمنا بأحد العلماء والحكماء الكبار في حضرموت وهو العلامة أبوبكر بن سالم بن آل الشيخ أبوبكر الذي مات في حضرموت في القرن العاشر الهجري من علماء مدينة عينات بجوار تريم. وحيد أبويه ونشأ في بيت مرتبط بالأدب واللغة والعلم، فجده الشاعر زين بن حسن بلفقيه رجل العلم والدين والأدب وشاعر بلده الأبرز وكان كذلك أيضا أعمامه، مات أبوه وهو في شهره السادس وتكفل برعايته وتربيته جده زين وعمه أحمد الذي كان مربي أجيال وكان تربويا ومدير مدرسة وهي «جمعية الاخوة والمعاونة» التي كان موقعها قليلا إلى الشرق من منزل أسرة بلفقيه في تريم. أما أعمامه فهم «سقاف، أحمد، حسن، علي، محمد». وأما أخواله فهم «محمد، علي» ووالدته فاطمة الكاف فهي من النساء اللواتي ارتبطن بالله كثيرا، حتى أنها توفيت منذ نحو 35 عاما وهي ساجدة في الحرم المكي الشريف.. وبدأ بلفقيه حياته العملية مدرسا للقرآن واللغة وهو لم يبلغ بعد سن السادسة عشرة وهي السن التي غادر فيها اليمن إلى جدة. لكن قبلها كان أبوبكر قد بدأ حياة الفن والغناء والتواشيح الدينية على وجه الخصوص متبعا طريق خاله وأخيه في الرضاعة «علي عمر الكاف» الذي سبقه إلى عالم الإنشاد والغناء هناك في تريم. أبو بكر في جدة في العام 1955م جاء أبو بكر وهو ابن السادسة عشرة إلى جدة سابقا أخاه في الرضاعة وخاله في نفس الوقت علي عمر الكاف «أبو محمد» الذي جاء في العام 1956 مواصلا عمله منشدا ومداحا، مالبث أن حول طريقه إلى التجارة، حيث يعتبر اليوم واحدا من أبناء سوق التجارة في جدة، بدأ بالفقيه الغناء بشكل أكبر وضوحا في عامه الثاني في المملكة عام (1956م). وذلك في الجلسات الخاصة وفي مناسبات الأصدقاء هاويا وكانت إحدى أشهر أغنياته في تلك المرحلة «أقبلت تمشي رويدا ودنت» من ألحانه أو هي من ألحان شاعرها ابن بصري السقاف، بينما كان عمله محاسبا في وكالة فيليبس «رجب وسلسلة» في البلد وحيدا في عمارة ابن كريديس «جوار بنك الاندوشين»، وفي هذه المرحلة التي التقى فيها بلفقيه بزملاء وأقارب وأصدقاء منهم حداد الحبشي «أبو حسين» الذي يعد من أعز أصدقائه إلى اليوم إلى جانب خاله علي الذي يعد الشاهد الأبرز لتاريخ أبوبكر بلفقيه وعمه حسن بن زين بلفقيه ومحمد سالم عيديد من موظفي البنك الأهلي ومحمد الكاف أبو خالد الذي يعد من أكثر خيلانه قربا والتصاقا به وهو يصغره بنحو 8 سنوات حيث قدم من تريم في العام 1963م وكان قد صاحبه طوال عمره، وفي رحلات عودته وزياراته لليمن ومن ضمنها رحلته الأولى إلى إذاعة عدن في 1969م وفي مختلف حفلاته الخاصة والعامة هناك وهنا في جدة ورافقه طوال عهد ظهور الاسطوانات ونجوميته في ذلك العهد 1963م ورافقه في رحلاته إلى القاهرة عندما امتلك بلفقيه أول شقة له في الزمالك ثم عندما غادر بلفقيه جدة نهائيا إلى الرياض في العام 1968م، ولازالت إقامته الدائمة فيها رغم تنقله بين بيته القاهري وبيوت أبنائه وابنته في الإمارات ومحمد الكاف «أبو خالد» كان يعمل في فيليبس أيضا وارتبط مع بلفقيه بصداقة عمر وكانت أوثق صداقات بلفقيه وبدرجة وثقى أكثر من القرابة مع عمه في جدة محمد زين بلفقيه الذي توفي منذ عام رحمه الله وعمه علي بن زين بلفقيه الذي لازال يقيم في المنطقة الشرقية.. هنا بدأ بلفقيه عمله الفني بملامح أوضح مع هذه الصحبة في جدة إلى جانب مواصلته العمل كمحاسب في «أواخر الخمسينات الميلادية»، وعلا اسمه وصوته الذي بدأ متمكنا منذ بداية الانطلاقة إلى أن بلغ مسامع مدير إذاعة عدن يومها الذي كان اسمه «صافي» والفنان الذي بدأ اسمه كبيرا هناك مبكرا محمد مرشد ناجي، فوجهت الدعوة إلى اليمن ليذهب إلى عدن مجددا ووحيدا عن طريق البحر وهناك كانت أولى تجارب التعامل مع الإذاعة حيث سجل عددا من أغنياته الخاصة هناك. ياورد محلا جمالك وبينما كان يستعد بلفقيه لتسجيل أعماله لإذاعة عدن في زيارته الأولى لعدن بعد إقامته الدائمة في جدة والتي كانت في العام 1959م وهو في محل بيع ورود، انشغل بجميلة كانت تختار بعض الورود لمناسبة تخصها فكتب في نفس المكان أغنيته الشهيرة: يا ورد محلا جمالك بين الورود يا غصن محلى قوامك لما تنود قلبي عليك ولهان.. عقلي وراك حيران الزين ذا كله ولا مرة تجود ريحك شذا ريح الشفاء ريح المسرة لونك بهي خمري نقي فيه حمرة يا ورد يا فتان ... ما تروي العطشان الزين ذا كله ولا مرة تجود يا ورد محلا جمالك بين الورود وهي الأغنية التي لحنها وقام بغنائها وتسجيلها لأول مرة في إذاعة عدن.. كان يومها أبوبكر عازفا رائعا ومميزا على الإيقاع وكان يلحن أعماله بالإيقاع، وهو في مهمة تسجيله لإذاعة عدن رافقه على العود العازف الشهير للعود يومها الفنان المقعد «أنور قاسم» وهو من أشهر عازفي العود يومها في اليمن إلى أن اتجه أبو بكر للعزف على آلة العود وليكن أشهر عازف «أشول» يتعامل مع العود وهناك جدد أيضا لقاءه مع ربيبه عبدالله حداد الذي انتظره هناك في تريم في زيارته الأولى لها بعد قدومه من جدة ورحلته الفنية إلى عدن التي سكن يومها فيها في حي الحساف في كريتر وهناك دخل بحر الغناء بقوة وأصبح مطلوبا في الحفلات في تريم وسيؤون والمكلا حيث كان يردد أغنيات عبدالوهاب وأم كلثوم لقلة أغنياته الخاصة وأغنيات وإبداعات محمد جمعة خان وأعمال حسين أبو بكر المحضار عندما احتضن تجاربه الأولى محمد مرشد ناجي الذي يكبره بأقل من عشر سنوات «المرشدي الآن في الثمانين من عمره المديد إن شاء الله».. يشار إلى أن إذاعة عدن يومها في عهد الاحتلال الإنجليزي كانت أقوى صوت إعلامي في الجزيرة العربية، ومعلوم أيضا أنها كانت أول مدينة في الجزيرة والمنطقة أنيرت شوارعها بالكهرباء وانطلق منها بث تلفزيوني، وعند عودته إلى جدة وكان طلال مداح رحمه الله بدأ مشواره رسميا مع الفن في العام 1960 في مسرح الإذاعة بأغنيته «وردك يازارع الورد» ، التقى في مناسبات وحفلات جدة النجمان طلال وبلفقيه الذي كان يردد «ياورد محلا جمالك» والتي أعجب بها طلال مداح وطلب غناءها رسميا فسجلها اسطوانة وكانت واحدة من أنجح أغنيات البدايات للصوتين. وهنا ونحن في بدايات ستينات القرن العشرين اهتم بإنتاج اسطوانات أغنيات بالفقيه وأخذه إلى بيروت من أجل هذا الغرض منتج وتاجر الاسطوانات يومها عبدالقادر السويني العمودي حيث سجل أولى مجموعاته الغنائية فيها مثل «ياطائرة طيري على بندر عدن، يامسافر على الطائف طريق الهدى، أربع وعشرين ساعة».. وهو الأمر نفسه الذي قام بعمله السويني العمودي مع طلال مداح قبل دخول لطفي زيني إنتاج الاسطوانات رحمهما الله. ويذكر أن بالفقيه قدم يومها وفي هذه البدايات فيلما سينمائيا غنائيا «8 ملم» عندما تفرغ للفن تماما والسفر إلى بيروت بشكل متوال لتنفيذ أعماله. أبو بكر أسريا بعدما استقر أبو بكر في جدة كانت المرآة الفاضلة والدته تتنقل بين جدة والأهل في تريم إلى أن استقر بها الحال في جدة إلى وفاتها ساجدة في الحرم المكي رحمها الله. وبلفقيه تزوج مرتين كانت الزيجة الأولى في عدن ورزق منها بابنتين «ألحان وأنغام وابن واحد وهو أديب»، وزيجته الثانية كانت في جدة من كريمة عمر العطاس التي رزق منها بأبناء ثلاثة هم «أصيل وهو المطرب المعروف اليوم، أحمد، أليف». أهم إنجازاته وفي مقدمة إنجازات بلفقيه تأتي الخطوات التطويرية التي قام بها تجاه الأغنية الحضرمية حيث نقلها من جوها الشعبي العام بل إنه نقل هذا الجو إلى لوحات تعبيرية بالاوركسترا الحديثة ليجعلنا نسمع مثالا لذلك أغنية مغرقة في الشعبية مثل «مرحيب» التي اختار لها مخرجها أبوبكر بن خطيب الفنانة اليمنية فوزان الحسن موديلا في الكليب بجو موسيقي كرنفالي عظيم لا يرقى بالقيام به فنان غير هذا المبدع الكبير بلفقيه الذي عشت معه الكثير من الحفلات والمهرجانات الكبيرة التي أحياها وكان منها مهرجان تكريمه وتكريم الأغنية اليمنية في دوحة قطر وهو مهرجان الدوحة الغنائي الذي يديره الفنان محمد المرزوقي، إلى جانب خوضه غمار الأغنية الصنعانية في تجارب له مع زميله الفنان أحمد فتحي، تلكم التجارب التي عكس فيها بلفقيه نجاحا كبيرا مثل «ظبي اليمن».. وكم كنت أتمنى مرافقته في حفل أقيم في عدن بتنظيم وتكفل من الراحل خالد بن محفوظ أن الظروف حالت دون ذلك. وكانت لبلفقيه مساهماته في تطوير تراث الجزيرة العربية من الغناء والفولكلور بأداء لا يجيده غيره، إذ إن عظمة الأداء عند بلفقيه وتفرده تأتي لتفرده وحرية صوته المتنقل رغما عن النوتة الموسيقية للحن دون نشاز أو خروج غير طبيعي، فكل خروج بلفقيه تمكن وأستذة لا يجاريه فيها أحد رغم اعتبار البعض أن ذلك عيب في بلفقيه وليس ميزة.. في الجزء الثاني من رحلة بلفقيه مع الفن سنعرض على تعاونياته الغنائية مع الكثير من الفنانين ومواقفه الخاصة مع بعضهم مثل صالح الشهري، وعبدالله الرويشد، وألبوماته مع غيره من المغنين، تلكم الألبومات التي اختار لها اسم: «مشوار الأحبة».