قبل عشر سنوات استشعرت الجهات المختصة بأهمية حوسبة المعلومات فأطلقت مشروع الحكومة الإلكترونية «يسر»، لكن الأعوام مرت ببطء بعد أن آثرت بعض الجهات الثبات في مكانها دون التوغل إلى عمق النقلة الحاسوبية المنتظرة. ويقدر الخبراء نسبة عدم التجاوب بنحو 20 في المائة برغم أن الجهات المعنية أزالت كل المعوقات المحتملة وخصصت مبلغ ثلاثة مليارات لإنفاذ مشروع الحوسبة. يواجه البرنامج، طبقا للخبراء والباحثين، تحديات عديدة ترجئ انطلاقته في موعده المحدد أواخر العام الهجري الحالي، ومن أبرز المصاعب ضعف تجاوب القطاعات الحكومية، عدم جاهزية البنية التحتية، ضعف الكفاءات الوطنية المؤهلة لقيادة المشروع الذي يهدف إلى التحول إلى الحكومة الإلكترونية، ورفع إنتاجية القطاع العام وتيسير الإجراءات على المواطنين. وقال خبراء ومختصون في مجال تقنية المعلومات إن نحو 20 في المائة من الجهات الحكومية على الأقل لم تتجاوب بالقدر الكافي مع متطلبات المشروع سواء على صعيد توفير الإمكانات البشرية أو تجهيز البنية التحتية، وأوضحوا إن إلزام مجلس الوزراء أخيرا مختلف القطاعات الحكومية بضرورة تقديم تقرير متكامل كل ستة أشهر حول الخطوات التي تم تنفيذها في المشروع يعكس استشعار المجلس عدم جدية الكثير من الإدارات الحكومية في الالتزام ببرنامج الحوسبة. عضو جمعية الاقتصاد السعودي عصام خليفة يرى أن الدولة استشعرت أهمية الحكومة الإلكترونية منذ أكثر من 10 سنوات عندما صدر أمر ملكي يقضي بوضع خطة لتقديم الخدمات والمعاملات الحكومية إلكترونيا، وبعد عامين تم إطلاق البرنامج بالتعاون بين وزارة المالية وهيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، وكالعادة يقول خليفة كان تجاوب غالبية الجهات دون مستوى التطلعات، لكن في المقابل الكثير من الجهات حققت تقدما ملحوظا في تنفيذ البرنامج، ومن أبرزها وزارات الداخلية، الحج، الخارجية، قطاع السياحة، وبنك التسليف والادخار. ويأمل عضو جمعية الاقتصاد من مختلف الجهات إلى أن تحذو حذوها في تطبيق البرنامج الذي يهدف إلى تخفيف الأعباء على مراجعي القطاعات الحكومية المختلفة وتحسين مستوى الإنتاج، منتقدا في ذات الوقت ضعف مستوى التنسيق بين الجهات الحكومية من جهة والمقاول المنفذ للمشروع لضمان التحول لإنهاء المعاملات الحكومية إلكترونيا، مشيرا إلى أن المملكة تعاني من نقص كبير في الكوادر البشرية المؤهلة لتطبيق المشروع في كافة القطاعات. مواقع بائسة ومعطلة يستغرب رئيس مركز عبدالله المغلوث للبحوث والدراسات الاقتصادية الدكتور عبدالله المغلوث عدم تفاعل الكثير من الجهات الحكومية مع إدارة التخطيط الاستراتيجي والمبادرات المساندة في برنامج الحكومة الإلكترونية «يسر» وتقديم تقارير دورية عما تم إنجازه نحو التحول للمشروع على الرغم من توفير البنية التحتية لتنفيذ برنامج حيوي ومؤثر هدف إلى تمكين الجميع في عام 2010 من الحصول على الخدمة الإلكترونية بشكل متميز من خلال استخدام العديد من الوسائل الإلكترونية في أي وقت ومن أي مكان. ويتوقع المغلوث حدوث تأخير يتجاوز العامين على أقل تقدير في تعميم المشروع على مختلف الإدارات، مشيرا إلى أن الكثير من المواقع الإلكترونية الحكومية لا يزال بائسا وفقيرا في محتواه حسب وصفه وقد تمر شهور دون أن تتكرم تلك الإدارات بتحديث معلوماتها أو تقدم محتوى ذا قيمة خدماتية فعلية للمواطن. ويعرب المغلوث عن أسفه الشديد لأن بعض الإدارات لا تلتفت إلى تغيير اسم المسؤول أو الوزير عن القطاع أو الوزارة التي يرأسها إلا بعد فترة من الزمن، واصفا ذلك بأنه خطأ فادح يكشف عن عدم المهنية في التعامل مع الموقع الإلكتروني الذي يعد عنوانا للمنشأة بصورة أو بأخرى. ويستبعد رئيس مركز المغلوث حدوث نقلة جذرية مفاجئة نحو التحول إلى البيئة الإلكترونية إلا بحدوث تغيير في العقلية التي تقود الإدارات الحكومية، معربا عن أسفه لأن البعض لا يزال يرى التحول الإلكتروني نوعا من الرفاهية، ويقول في هذا الشأن «متى يأتي اليوم الذي يمكن إن يختفي فيه الملف العلاقي وطوابير التقديم للوظائف والخدمات تحت أشعة الشمس». ويمتدح المغلوث إلزام مجلس الوزراء مختلف القطاعات بضرورة تقديم تقرير كل ستة شهور يحدد نسبة الإنجاز والتحول نحو الحكومة الإلكترونية، مشددا على أهمية ترجمة المشروع على الأرض قريبا. خدمة إلكترونية بلا عناوين في المقابل، رأى الخبير الاقتصادي مقبول عبدالله الغامدي أن الحديث عن حكومة إلكترونية تعتمد على استخدام تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات للوصول إلى الاستخدام الأمثل لكافة الموارد، إلى جانب توفير خدمة مميزة للمواطنين، أمر لا فكاك منه، منتقدا التركيز فقط على خدمة تفعيل وتحصيل المستحقات والرسوم لوزارة المالية والجهات المختلفة الأخرى خاصة الجوازات والمرور. ويدعو الغامدي إلى أهمية المسارعة إلى إحداث التكامل المنشود في الخدمات المطلوب تقديمها عبر الحكومة الإلكترونية، والتي تزيد على 100 خدمة تتعلق بالتأشيرات، تجديد الإقامات، الرخص، تراخيص المباني وسداد الرسوم وغيرها. موضحا أن من أبرز التحديات الأخرى التي تواجه الحكومة الإلكترونية عدم توفر عناوين واضحة بهدف إيصال الرسائل البريدية إلى المشتركين في الخدمة. ودعا إلى إحداث نوع من المصالحة والتفهم لبرنامج «واصل» الذي أطلقته مؤسسة البريد لتعزيز الخدمة، إذ من الصعب تعميم الحكومة الإلكترونية وغالبية المواطنين لا يملكون عناوين بريدية دقيقة وصحيحة يمكن إرسال الرسائل إليهم عبرها. وأشار الغامدي إلى أن تطبيق الحكومة الإلكترونية من شأنه إن يسهم في مرونة العمل، والتواصل بين كافة القطاعات الحكومية بما يسهم في تقديم الخدمة في وقت قياسي، مرجعا التأخير الجاري في تعميم البرنامج الذي بدأ العمل عليه منذ صدور قرار مجلس الوزراء في 1427ه إلى ضعف حماس وغياب قناعة الجهات المسؤولة في الجهات الحكومية. عوائد اقتصادية حول الآثار الاقتصادية المتوقعة للحكومة الإلكترونية حول العالم، استعرض المهندس عبدالرحمن العلي المتخصص في الهندسة الإلكترونية تفاصيل دراسة نشرت على موقع شركة مايكروسوفت، أشارت إلى أن حكومة الولاياتالمتحدة توفر 70 في المائة من تكلفة معظم الخدمات بعد التحول إلى الحكومة الإلكترونية مقارنة بتكلفة تقديم نفس الخدمة بالطريقة التقليدية. كما أن تجديد الرخصة في ولاية أريزونا، مثلا، يكلف دولارين إلكترونيا مقابل سبعة دولارات بالطرق التقليدية، ويوفر الشراء الحكومي الإلكتروني 10 20 في المائة من تكلفة المواد والمشتريات. وفي ولاية ألاسكا انخفضت تكلفة تسجيل السيارات من سبعة دولارات إلى أقل من دولار على الطرق الإلكترونية. وفي شيلي توقعت الحكومة توفير 200 مليون دولار من جملة أربعة مليارات دولار قيمة المناقصات السنوية بعد وضع نظام المشتريات على موقع إلكتروني. ويضيف المهندس العلي: على صعيد الدول العربية أدى دمج قواعد بيانات وزارتي التخطيط والمالية في المغرب، مثلا، إلى خفض زمن إعداد الميزانية إلى النصف، وفي دبي أدى استخدم الخدمات العامة الإلكترونية في الدوائر الحكومية إلى تحقيق وفر في التكلفة الإدارية بنسبة 10 في المائة. إنترنت في كل بيت ويرى المهندس العلي أن التحول إلى الحكومة الإلكترونية يحتاج إلى تطوير نظم الاتصالات، زيادة عدد الهواتف الثابتة والمحمولة، ضمان إمكانية الدخول على الإنترنت في القطاعين الحكومي والخاص، إدخال الإنترنت إلى الفصول الدراسية، وتوفير المعلومات باعتبارها ملكية عامة انطلاقا من قانون حرية المعلومات. مشيرا إلى أن استخدام الإنترنت في الانتخابات، مثلا، يؤدى إلى زيادة أعداد الناخبين في أي مكان في العالم لكنه يشدد على أن نجاح المشروع يحتاج بالدرجة الأولى إلى إرادة والتزام حقيقيين بالتطوير المستمر. موضحا أن الجيل الجديد ينبغي أن يكون على صلة وثيقة بالإنترنت من سنين عمره الأولى، بعد أن أثبت نجاحه في إحداث تحول حقيقي في حياة الشعوب. ودعا إلى إحياء مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز حاسب آلي لكل طالب من أجل تغيير النمط الحياتي السائد، وتحديث طبيعة الدراسة لتصبح رقمية متطورة تواكب الثورة المعلوماتية. وانتقد العلي ما وصفه بالبيروقراطية التي عصفت بالمشروع الحلم في سنواته الأولى. موقع المشروع .. فقير من جهته، سخر الاقتصادي سالم الغامدي من موقع البوابة الوطنية للتعاملات الإلكترونية «يسر» للبطء الواضح فيه وقلة المعلومات المعروضة، موضحا أن التقرير الأخير عن البرنامج خاص بالعام 2009. ولا توجد أية معلومات حديثة عنه سوى أخبار متناثرة هنا وهناك. وتساءل الغامدي كيف نقنع الجهات الحكومية الأخرى باللحاق بالبرنامج والجهة المسؤولة عن موقعها بهذه الصورة؟ وأضاف أن بعض الجهات الحكومية تعتبر البرنامج واجهة لتحصيل الرسوم فقط، وحينما يرغب المواطن أو المراجع في استرداد الرسوم يواجه مصاعب شتى. ويشدد الغامدي على أهمية منح الصلاحيات الكاملة لإدارته ماليا وإداريا لأن تشعب المسؤوليات والمهمات قد يعصف بالمشروع، داعيا في ذات الوقت إلى ضرورة العمل على استقطاب الكفاءات المتميزة في مجال بنية المفاتيح العامة والتشفير باعتبارها من الأركان الرئيسية في البرنامج. وأوضح الغامدي أن عملية حساب بسيطة تشير إلى وجود خلل حتى الآن في آلية التنفيذ على أرض الواقع، مشيرا إلى أنه كان من المنتظر بحلول نهاية 2010 الاستفادة من 150 خدمة متنوعة في برنامج «يسر»، إلا إن الموعد مر بهدوء ولم نشهد جديدا للحد من المراجعات المملة والزحام الشديد في طوابير الجهات الحكومية، خاصة الخدمية منها. وأشار إلى ضرورة خروج أحد المسؤولين عن البرنامج أمام الجميع ليعلن عن الخطوات التي تم قطعها في هذا المشوار الطويل والعقبات التي تعترض الإنجاز المنشود. ضبط المشتريات وحسم الرشاوى في السياق ذاته، استبعد الخبير الاقتصادي سلطان النقلي التراجع عن هذا المشروع الواعد للمستقبل؛ لأن أكثر من 60 في المائة من المواطنين يندرجون تحت أقل من 25 عاما، ولديهم الرغبة في أن ينعكس شغفهم بالحاسوب والكمبيوتر إلى واقع خدماتي. ورأى أن التطبيق الأمين لهذا البرنامج من شأنه إن يحد من التلاعب في المشتريات ويقضي على الواسطة والرشاوى، ملمحا إلى أن الشفافية التي ينشدها البرنامج ربما أوجدت له مقاومين مستفيدين من الوضع الراهن. ودعا النقلي غالبية الجهات الحكومية إلى ضرورة إسناد إدارة مواقعها الإلكترونية إلى كفاءات شابة قادرة على تغيير هويتها بدلا من حالة الثبات والسكون الحالية. مواجهة تراخي الإدارات يرى النقلي أن التحول نحو ميكنة الكثير من الخدمات أدى إلى توفير وظائف للكثير من الشباب والمكاتب التي تستغل جهل الكثيرين بالتكنولوجيا لتقديم الخدمة لهم. ودعا إلى إعادة النظر في نظام البرنامج، مرجحا سبب ضعف التطبيق إلى وجود فجوة بين القائمين على التشغيل والموظفين الحكوميين، لاسيما أن الكثير من إجراءات العمل غير مكتوبة في العديد من الدوائر وما يتوفر من معلومات على الموقع بشأنها قد لا يكون كافيا. ورأى أن برنامجا يدعو إلى الشفافية والوضوح في التعاملات لن يحقق المأمول من النجاح إلا إذا كانت خطوات تنفيذه تسير بشفافية حتى تعلم الجهات المقصرة جوانب النقص وتعمل على تجاوزها سريعا. ولم يستغرب النقلي البطء في تطبيق البرنامج الذي يحقق فوائد عديدة، وقال إن ذلك يرتبط بحالة التراخي السائدة في القطاع الحكومي بشكل عام، داعيا إلى ضرورة تغيير الثقافة والوعي الاجتماعي من أجل إعلاء شأن الإنتاج وزيادة القيمة المضافة للأداء الاقتصادي بشكل عام بدلا من البحث عن الحوافز والإجازات دون تقديم العطاء المنشود، وطالب بالنظر إلى تجربة العامل الياباني الذي يحزن نتيجة عدم ذهابه إلى العمل في يوم الإجازة لحبه الكبير لوظيفته.