حمدا لك يا رب، وشكرا على نعمة النسيان! بالأمس ألقيت محاضرة لموظفي الخطوط السعودية، نظمها شباب مخلص غيور، ظل لأكثر من عشرين سنة يرتب هذه المناشط، ويثابر على ديمومتها وإحيائها، كنت مبتهجا باستقبالهم وحفاوتهم وإيجابيتهم الرائعة. جمعت في المحاضرة ما لذ وطاب من كلام الحكمة الربانية والهدي النبوي والتجربة الإنسانية؛ مما يتعلق بالسفر والعلاقة والعاطفة، وعرجت على حقوق الأهل والمنزل والأطفال، وتنقلت ما بين آية محكمة وحديث صحيح وحكم فقهي وأبيات شعرية وقصص واقعية.. وليست كثيرة هي الحالات التي أجد مستمعي يضحكون بصوت عالٍ.. لقد حدث هذا هذه المرة، كانت الأريحية حاضرة، وانتهينا والسرور والحبور يلف الجميع.. ودعني الشباب بلطف، وقسماتهم تنطق بالرضى، وألسنتهم تعبر عن الشكر لإجابة الدعوة. عند سيارتي وقف لي شاب دس في يدي أوراقا ملفوفة، وكأنه يحاذر أن أفتحها بحضرته.. ركبت السيارة وقلت لصاحبي.. إن صدق حدسي؛ فالأوراق تتعلق بطلب مال، أو بنقدٍ وملاحظات، فهي تتراوح بين (النقد) و(النقد)! فتحتها وطفقت أقرأها على من معي.. ثماني عشرة ملحوظة مرقمة ومسطورة تستوعب الحديث كله، منذ أن بدأت الكلام إلى آخر كلمة قلتها! وكأنها تفريغ للمحاضرة ولكن بروح سلبية! منذ الافتتاح إلى الإجابة على آخر سؤال. لقد كان الشاب حاضرا مصغيا بأذنه، مجهزا للأوراق والأقلام، مبرمجا عقله على أنه سيسمع الخطأ وسيدونه، وسيضيف إليه عبارات الاستهجان وعلامات الاستفهام والتعجب، مع شيء من الربط الذي يؤكد أنه شخص واع حاذق، لا تطوف عليه الحيل ولا تنطلي عليه الألاعيب!. وفي نهايتها يقول إنه ما زال في الجعبة المزيد، ولكن ضيق الوقت وامتلاء الصفحات الأربع؛ حال دون ذلك! تعجبت من هذه (الترجمة الفورية) التي تشبه ما يحدث في التراجم الفورية؛ من انقلاب المعاني وتداخلها وصعوبة الفصل بينها، وأشفقت على شاب يقضي سنوات عمره في تصيد الأخطاء وتدوينها، ويستمع إلى الآخرين بهذه الروح السلبية.. وقد يشعر بأنه صاحب رسالة! لو عرفت الشاب لاختبرته وطالبته أن يستمع إلى المحاضرة مرة أخرى، ويحاول أن يدون الصوابات والمعاني الصحيحة والجميلة. من الغد كنت في مكة، ومع جماعة من أصدقائي؛ فجاءت المناسبة وذكرت لهم القصة وأنا أضحك ملء فمي.. بادرني أحدهم بالسؤال: ما هي أهم الملاحظات التي دونها؟ قلت له: آه، لقد نسيتها جميعا! ثم عقبت: يا لها من نعمة.. ربما لو كنت استحضرها الآن؛ لم تجدني أحافظ على هذه البهجة والمتعة في جلوسي معك وحديثي إليك وممارسة حياتي بعفوية ورضى.. إنها واحدة من عطايا الله.. إذا سلط عليك شيئا من الهم أو العناء أن يعينك ويوفقك لتنساه فورا. نعم؛ سوف تنسى تفصيلات لا تحتاج إلى استذكارها، ولكنك ستحتفظ بالقصة وطرافتها وعبرتها، ستفلح في تحويل هذا الموقف السلبي إلى تجربة إيجابية سيكون حديثا ممتعا في مجلس، أو مقالا مقروءا في جريدة، أو قصة في برنامج، سيكون إضافة جميلة لحياتك ومسيرتك، وتدريبا على الهدوء، وتأكيدا على التواضع، وتذكيرا بأهمية العمل والمواصلة والإخلاص، ودرسا لن تنساه في الصبر والاحتمال، واختبارا حقيقيا لقدرتك على العفو والتسامح والتفويت ونسيان العثرات.. هذا الشاب ستلقاه غالبا بعد سنوات؛ يصافحك ويبتسم إليك، ويطلب منك الحل والمسامحة، فقد أساء بك الظن يوما، أو صدق فيك مقالة لم يتحقق منها، وستكون مسرورا لأنك وجدت عاقبة الصبر والإعراض، وإذا لم يحدث هذا؛ فمن اللطيف أن يلهمك الله أن الأمر قد حدث بينه وبين نفسه، وإن لم يتصل بك خبره، وأن الشاب وجد طريقه ومضى في حياته بعدما تزوج وجرب، وتغير طاقم أصدقائه، وتنوعت قراءاته، وهو يحتفظ بآرائه ولكنه لا يبتلي الناس بها.. سيرث موقفه شاب جديد (ربما أخوه الأصغر أو حتى ولده) فليكن.. مرحبا بالوجوه الجديدة.. إذا كتب لنا أن نواصل الحضور والمشاركة فستكون هذه المواقف جزءا من ضريبة العطاء.. وليمنحنا ربنا القوة والمواصلة والطاقة الإيجابية الفعالة حتى لو ابتلينا بمثل هذه المواقف! النجاح الكبير إذا تمالكت نفسك، واقتبست ولو مفردة واحدة؛ تعتقد أن مثل هذا الشاب سيضيفها إلى شخصك وإلى قاموسك المعرفي، فالحق يؤخذ ممن جاء به، ولا أحد أقل من أن يفيد، ولا أكبر من أن يستفيد، رحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا، ولو كانت عشرين عيبا في مجلس لا يزيد على ستين دقيقة.. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة